إذن لم تعد المولات التجارية خاصة بالعائلات فقط، مع أن في لفظة العائلات بهذا التوصيف إشارة إلى معنى خاص ابتكرناه نحن، إذ غالبا ما نقصد بالعائلات النساء، بينما الشباب والرجال هم في الواقع جزء من كل عائلة، والأماكن العامة لا يمكن قصر الاستفادة منها أو دخولها على فئة أو شريحة معينة، إنها عامة أي للجميع، والقانون هو الذي يضع محددات تعامل الأفراد واحترامهم لتلك الأماكن.
في غفلة من الوعي وفي استجابة لنوع حاد من المحافظة، وجدنا أنفسنا نقرر الكثير من الإجراءات التي لا يمكن تفسيرها، تركناها بعد ذلك لتتحول إلى واقع، وانشغلنا فيما بعد بتناول الآثار السلبية التي تولدت عنها، خاصة في مدننا التي تتضاءل فيها الخيارات ويصبح فيها حرمان شريحة ما من حق من حقوقها تحت طائلة الحذر والمحافظة باعثا على ولادة الكثير من السلبيات التي تتجاوز غالبا ما كنا ننتظره من إيجابيات، فلقد انشغلنا كثيرا بقراءة واقع الشباب السعودي، وقلة الخيارات المتاحة لديهم خاصة في مدن تمثل فيها المولات التجارية أبرز أماكن الترويح. بينما نحن الذين صنعنا تلك الأزمة.
إنما هل كان قرار منع الشباب من دخول المولات التجارية قرارا غريبا على ثقافتنا الاجتماعية؟ الجواب بكل تأكيد: لا. فلقد ظل المنع والاحتراز والتحوط الشديد والمبالغ فيه أحيانا من الاقتراب مما نراه مؤديا إلى أخطاء سلوكية أمرا حيويا وقائما في ثقافتنا الاجتماعية، كنا نؤمن بالمنع إلى أقصى حدوده، ونتشدد كثيرا في فصل الرجال عن النساء، وفي فرض كل ما نراه من إجراءات احترازية، كان ذلك حين كانت نوازعنا الاجتماعية أكبر من نوازعنا المدنية والحقوقية والمدنية، وكان ذلك أيضا في فترة ما يمكن تسميته بصدمة المدينة الحديثة في حياة السعوديين.
لكننا لم ندرك أن جيلا تغير وأصبح ينظر بكل استغراب إلى ما فرضناه من قرارات قائمة على الخوف والتحرز، وفي الوقت الذي كنا نظن فيه أن فرض تلك القرارات دليل قوة يراها هو الآن دليل غياب القدرة على التنظيم. هذا الجيل أصبحت لديه نماذج من حوله يراها ويقيس عليها ويوجه إلينا الأسئلة يوميا من خلال ما يعقده من مقارنات.
جيل الآباء الذين كانوا يرون في تفتيش بناتهم أمام بوابات الكليات حماية لهن من الخطأ، خلفه جيل آخر يرى في ذلك التفتيش نوعا من الامتهان والمساس بالحريات الشخصية.
الخطأ الكبير الذي وقعنا به أننا لا ننتبه لتلاحق الأجيال وتغير الوعي وبالتالي تغير المطالب.
كنا نحرص على إقحام كثير من المؤسسات الخدمية في القيام بأدوار سلوكية تربوية، متناسين بذلك الطبيعة المحافظة للمجتمع أصلا، وقيمه التي تربى عليها، فتحول مجتمعنا من كونه مشغولا بالحفاظ على قيمه والالتزام بها إلى كونه باحثا عن وسائل تلبية ما تريده منه تلك المؤسسات، وهي أبرز لحظات التنازع التي أوقعنا فيها الشباب حين أصبحت بعض المؤسسات شريكة في تربيته مع أنها يفترض أن تكون شريكة في خدمته.
إن وجود الشباب في المولات، أو ترك طالبات الجامعة للالتزام بما تربين عليه من أخلاق هو أكبر امتحان لدى نجاح المجتمع في أن يقدم تربية واعية وقادرة على العمل والإنتاج وفي ذات الوقت قادرة على الالتزام بأخلاقها وسلوكياتها.
إن الأخلاق الحميدة في الدولة المدنية معادلة معقدة للغاية لأن واجب الدولة هو حماية الأخلاق وليس فرضها، لكن الحماية لا تعني حماية الأخلاق بمفهومها المجرد بل حماية الأفراد الذين يلتزمون بها، فلا يمكن مثلا إعلان الحفاظ على العفة أو على الفضيلة أو على الأخلاق لأنها مفاهيم مطلقة لكن الصواب يتم عبر وضع قوانين تحافظ على الحريات وعلى الالتزام بالأخلاق وفق التنوع الذي يعيشه كل مجتمع. لأن وظيفة الدولة ليست في أن يفكر الأفراد بشكل ملتزم وواعٍ، بل أن يتصرفوا بشكل ملتزم وواعٍ، ولقد انشغلنا بتفكير الناس أكثر من انشغالنا بسلوكهم، مع أن قضيتنا ليست في كيف يفكر الناس بل كيف يتصرفون، وهذا ما لا يمكن ضبطه إلا بالقانون.
ليس كل الذين يقفون عند إشارة المرور يلتزمون عن وعي بذلك، بل لأن ثمة قانونا واضحا يجعل من قطع الإشارة خطأ يعاقب عليه.
إن أجمل ما يحدث الآن هو ذلك الالتفات لبعض التنظيمات التي بدأت تمثل مشكلة أكثر من كونها تمثل حلا، وهو ما سيجعلنا نلجأ للتنظيم والقانون على أنه الحقيقة التي لا جدال في قوتها وأهميتها.