طالب مجلس الشورى مؤخراً، ديوان المراقبة العامة "بسرعة وضع الضوابط والإجراءات التي تضمن تسوية وسداد العهد وأرصدة الأمانات في وقتها المحدد، ومحاسبة المسؤولين عن مخالفة الأنظمة الخاصة بهذا الشأن"، ويأتي ذلك بعد رصد الديوان تضخم أرصدة العهد وتجاوزها 25 مليار ريال، وزيادة أرصدة الأمانات حيث بلغت (19.31) مليارا، واعتبر الشورى ذلك مخالفة لقواعد وإجراءات إقفال الحسابات، كما أن زيادة هذه الأرصدة تعكس ضعف كفاءة الإدارة المالية.

والسؤال المطروح هنا: ما مشكلة حسابات العهد والأمانات في الجهات الحكومية؟، لأن هذه المشكلة بالتحديد، تتكرر من سنة إلى أخرى، وفي كل جلسة للشورى، وعند مناقشة تقرير الديوان السنوي، يتم التطرق إلى مشكلة الأمانات والعهد، حتى إن البعض يعتقد أن هناك قضايا فساد وهدر للمال العام، ونظراً لأن هذه الملاحظة قديمة، فلا أحد من الأجهزة الرقابية (وزارة المالية، ديوان المراقبة، مجلس الشورى) يتطرق إليها بالتفصيل!.

ولعل من المناسب في هذه المقالة التطرق إلى طبيعة هذه الحسابات وكيفية التعامل معها، والمشاكل المتعلقة بها على أرض الواقع.

ولنأخذ في البداية حساب الأمانات، وهي عبارة عن المبالغ الثابتة في ذمة الحكومة لشخص أو لجهة معينة، وهي بالتالي بمثابة ديون على الحكومة، ويتوقف بقاؤها في السجلات المحاسبية حسب طبيعة وظروف كل مبلغ فقد تكون مرتجع رواتب نتيجة عدم صرف الرواتب والمكافآت لأصحابها لأي سبب كان، وقد تكون أيضاً في شكل متحصلات مالية (تأمينات) على ذمة إنجاز أعمال أو تأدية خدمات للجهة الحكومية كما في خطابات الضمانات البنكية في المنافسات والمشتريات الحكومية، أو تكون أمانات متنوعة كتلك المبالغ المستقطعة من مرتبات الموظفين لصالح التقاعد.

ومن الطبيعي زوال الأرصدة السابقة من الدفاتر، حيث تتوقف على انتهاء الغرض منها إما بقيام المقاول بإنجاز شروط العقد، أو بصرف الرواتب لمستحقيها.

وكما رأينا آنفاً فإن حساب الأمانات يمثل مستحقات الغير لدى الحكومة، وهي تختلف حسب ظروف وطبيعة كل مبلغ، وفي الممارسة العملية تظهر مشاكل عديدة وخاصةً في حساب الأمانات المتنوعة، فقد تكون مبالغ محتجزة من مستحقات المقاولين نظير عدم تقديم المستندات المطلوبة، أو عدم تنفيذ شروط التعاقد، أو قد تكون نظير تبرعات لم يتم الصرف منها، أو مستحقات للتقاعد والتأمينات الاجتماعية، لذا فإن حساب الأمانات يحتاج إلى بيان تفصيلي لكل جهة حكومية لمعرفة الأسباب التي تحول دون تسديدها أولاً بأول، ومعرفة لماذا تدور من سنة إلى أخرى، ولا تتم إضافتها إلى الإيرادات المتنوعة؟ علماً بأن بعض الجهات الحكومية قد تضطر لذلك.

أما بالنسبة لحسابات العهد، فهي عبارة عن المبالغ المستحقة للحكومة، وهي تشبه حساب المدينين في الشركات، وهي أيضاً حسابات شخصية موقتة يلزم تحصيلها أو تسويتها عند انتهاء الغرض منها، وقد يكون حساب العهد (سلف موقتة) وهي المبالغ التي تصرفها جهة حكومية لأحد موظفيها لأداء أعمال مصلحية، وقد تكون العهد سلفا مستديمة وهي المبالغ التي تصرفها الوزارات بصفة مستديمة لفروعها في الداخل أو مكاتبها وممثلياتها في الخارج، أو تكون عهدا تحت التحصيل مثل صرف رواتب خطأ بالزيادة، أو وجود حالات اختلاسات، أو وجود مستحقات للجهة الحكومية لدى الشركات، وهناك حساب للعهد خاص بالاعتمادات المستندية في الخارج.

وما ينطبق على حساب الأمانات ينطبق أيضاً على حساب العهد من حيث ضرورة وجود تفصيل لطبيعة وظروف هذه الحسابات وأسباب تدويرها، ولكنها تختلف في أن حساب العهد أكثر عرضة للتلاعب وهدر للمال العام..كيف؟.

لنأخذ على سبيل المثال حساب العهد..(السلف المستديمة)، ففي الممارسة العملية يتطلب سداد السلفة تقديم مستندات الصرف مثل فواتير الشراء، ويعلم المراقبون أن الفواتير التجارية يسهل الحصول عليها وفي بعض الأحيان تكون غير قانونية ناهيك عن شيوع المسؤولية عن السلف بين المحاسبين والمدراء في الفروع، وليس هذا فحسب فقد تنشأ مشاكل رقابية بخصوص الحسابات البنكية المخصصة للفروع والمكاتب في الخارج.

ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن طرحها في هذا الصدد، مشكلة العهد تحت التحصيل، فقد تقيد مبالغ مستحقة لجهة حكومية ما نظير إيرادات تحصّل من إحدى الشركات، وهنا قد تفلس الشركة أو لا تقوم بالسداد، بسبب عدم اتخاذ الإجراءات القضائية والنظامية من قبل الجهة الحكومية ضد الشركة.

وعلاوةً على ما تقدم، يمكن القول إن حساب العهد بالفعل يحتاج إلى ضوابط وإجراءات تضمن تسوية الأرصدة، ولكن الأهم من ذلك وجود رقابة فعّالة على هذا الحساب.

لذا أقترح تطبيق مفهوم الأهمية النسبية في عملية المراجعة والمراقبة سواء على حساب العهد أو الأمانات، وخاصةً في ظل تنوع طبيعة وظروف هذه الحسابات.

ومفهوم الأهمية النسبية يعد مفهوما رقابيا أساسيا ومهما جداً، ويعرّفه مجلس معايير المحاسبة الأمريكي (FASB) على أنه عبارة عن: "قيمة السهو أو التحريف الذي لحق بالمعلومات المحاسبية والذي يجعل من الممكن – في ضوء الظروف المحيطة-أن يتغير أو يتأثر حكم الشخص العادي الذي يعتمد على هذه المعلومات، نتيجة لهذا السهو أو التحريف".

ويمكن من خلال هذا المفهوم التوصل إلى إجراءات رقابية مناسبة وفعالة، فعلى سبيل المثال في حال السلف المستديمة يمكن كشف الممارسات الغير مشروعة، وهنا يمكن إعطاء تعليمات للبنك بأن يرسل كشوف الحسابات رأساً إلى الوزارة، أو التصريح بالعمليات المالية كتابةً من قبل المدير المسؤول وهكذا.

وبالطبع هنا لا أنادي بتطبيق هذا المفهوم كما هو معمول به في الرقابة على الشركات والتي تعتمد على النماذج الكمية في تطبيقه، ولكن يمكن للرقابة الحكومية تطبيقه بشكل نوعي وخاصةً على حساب العهد والأمانات، ولعلي أتحدث عن هذا المفهوم بشكل تفصيلي في مقالة أخرى بإذن الله.