قام أحد التجار بافتتاح مخبز كبير في المدينة، وأحضر مجموعة كبيرة من الخبازين لتلبية رغبات الناس، وتقديم كل أنواع الخبز بأشكاله وألوانه، فنعمت المدينة بأطايب الخبز، من خبز القمح والذرة والشعير والوافل والبان كيك والفطائر، والخبز الأبيض والأسمر والمحمص واللحوح والتميس والشباتي والشابورة، وكل أشكال الكعك، حتى أصبح هذا المخبز وجهة لجميع سكان المدينة والقرى المجاورة لها.

وازداد الطلب وكثر الزحام وتكدس الناس خارجه، فأعلن التاجر حزمةً من الإجراءات التي ستسهم في انسيابية العمل وخدمة العملاء.

توقّع الخبازون أن يتم تزويد المطعم بمزيد من الخبازين المهرة، أو المتدربين للاستفادة من خبراتهم الطويلة، ويتم توسيع المخبز من الداخل، وتزويده بالمعدات والأجهزة الحديثة التي تساعدهم على إنجاز العمل بدقة وسرعة أكبر.


بينما توقع العملاء أن يتم توسيع المحل من الخارج، وتنظيم المواقف وأماكن الانتظار، واستبشر الشباب خيرا بتوظيفهم حراس أمن ورجال مرور لتنظيم حركة السير، لكن الإجراءات كانت مخالفة لجميع التوقعات. فالتاجر أعلن أن على الخبازين تنظيم حركة السير في الخارج وتنظيم الطوابير والبت في مشكلات العملاء!.

تساءل الخبازون والعملاء والمدينة بكاملها وقراها المجاورة: أي خبز هذا الذي سنأكله من يد خباز يؤدي عملين متداخلين في الوقت نفسه؟!

فالخباز لا يكون إلا خبازا. نعم، قد يكون خبازا مهملا، أو متقاعسا، أو غير متقن. ونعم، قد يكون «وسيع ذمة»، ويأكل نصف الرغيف!، لكنه على كل حال، لا يكون إلا خبازا، ولا ينبغي ولا يُعقل أن يكون حارس أمن أو شرطي مرور، لأن هذه مهنة أخرى.

صحيح، أن لكل مهنة متعلقاتها وملحقاتها، لكن ليس لدرجة أن تتداخل مهنتان في مهنة واحدة، إلا أن تطغى إحداهما على الأخرى.

فمن متطلبات الخباز البراعةُ في التعامل مع حرارة التنور، والدقة في موازنة مقادير العجين، والقوة في لتّه وعجنه، لكن لا يدخل ضمنها فنّ فك الاختناقات، وحل الخصومات، وإزالة النزاعات، والمحافظة على الأمن.

فمن حق العميل أن يأخذ رغيفه من الخباز الذي كرّس وقته وجهده لصنع هذا الرغيف، وعليه يتقاضى أجره، ولا يصح أن يتناول رغيفه من حارس الأمن أو رجل المرور.

وإذا كان ذلك خطأ فادحا في حق الخباز وحق العملاء، فهو خطأ أشد بشاعة في حق المعلم الذي يجب ألا يراه الطالب وولي أمره والمجتمع بكامله، إلا في مكانه اللائق به، بصفته معلم أمة ومربي جيل.

وجريمة في حق الطالب أن يرى معلمه الذي كان رسولا في الحصة السابعة، وأعطاه درسا في أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتعرض للشتم من المارة، أو يفقد رباطة جأشه تحت أشعة الشمس الحارقة، فيتلفظ بما لا ينبغي أمام أحد طلابه.

ورياضيا، فإن اللاعب المحترف -دعك من الهاوي والمبتدئ- بعد أن يؤدي شوطين مدة كل منهما 45 دقيقة، ويفصل بينهما ربع ساعة -وليس 5 دقائق- فإنه يجب أن يرتاح 24 ساعة -كحد أدنى- قبل لعب شوطين آخرين، ولا يطلب منه أن يقوم بمهمة رجال الأمن، بل يخرج تحت حراستهم.

المعلم ليس أقل شأنا منهم، ومن الطبيعي أن يؤدي أشواطه بعزيمة متثاقلة، لأنه تنتظره أعمال أخرى لا علاقة لها بعمله الحقيقي.

وليس لدي شك في رؤية وزيرنا الثاقبة، وأعلم أنه لن يدّخر وُسعا في خدمة التعليم بما يتوافق مع رؤية الوطن، ولكني أقدّم هذا المقال لشرح أبعاد هذه القضية التي استحوذت على اهتمام الملايين في الأيام الماضية.

دعوا الخباز في مخبزه.. فإنكم لا تقوون على حرارة التنور.

fatima alsahimi@