يقول علماء نفس النمو: إن الإنسان يبدأ بالتعرف على ذاته من أيامه الأولى. في البداية يحتاج إلى شيء من الوقت ليعرف من هو ومن هم الآخرون. فالطفل يبدأ في إدراك أن هناك أشياء خاضعة لإرادته مثل يده ورجله يحركهما متى شاء وهناك أشياء خارج هذه الإرادة يبدأ يصنفها على أنها الآخر. علماء التربية في المقابل يرون أن هذه العملية تعرّف الإنسان على ذاته، وتمتد طول العمر لاعتبارات كثيرة من أهمها أن الإنسان كائن معقد ويحتاج لمعرفة وخبرة أوسع لفهم ذاته. التربية والتعليم بمعناهما الواسع، أي خبرة العيش، هما بيئة وساحة هذه المهمة.
الغالب أن يعيش الإنسان ـ على الأقل ـ الثماني عشرة سنة الأولى من عمره وهو عالة على الآخرين بسبب ضعف جسده وقلّة خبرته. طيلة هذه السنين يبقى أيضا في داخل ظروف لم تكن له فيها الكلمة العليا. لاحقا حين يملك الإنسان جزءا من الاستقلال المادي والجسدي يحين وقت اللحظة الكبرى: الآن يجب أن تكون إرادتي الحرة هي من يصنع عالمي الخاص، الآن أستطيع أن أتعرف على نفسي فعلا، الآن جاء وقت الحرية.
هنا تحضر التربية والتعليم باعتبارهما فتحا لباب الإمكانية. إنهما عون لهذا الإنسان في أن يعلم أن الحال التي يعيشها ليست إلا خيارا ضمن خيارات وحالة ضمن حالات. التواصل مع الآخرين يفتح باب التنوع والاختلاف فهو يكسر جدار الواقع الذاتي ويفتحه على كم لا منتهٍ من الوقائع المختلفة. إتقان لغة ما قراءة وكتابة هو انفتاح على إمكان غزير، انفتاح على حرية ممكنة، حرية فعل واختيار. التربية والتعليم هنا باعتبارهما تواصل هما أمل وأفق للمستقبل.
لو عدنا إلى المدرسة أو الجامعة وإلى علاقة الطالب والمعلم ونظرنا لها من ذات المنظار لوجدنا احتمالا حقيقيا للحرية. المعلم والطالب، في تعليم الحرية لا تعليم القمع، يستطيعون الانخراط في تواصل فاتح للوجود. تواصل قائم على خلق الأسئلة حول الواقع. التعليم هنا يصبح سؤالا حول الواقع أو تحويلا للواقع من كونه جوابا إلى كونه سؤالا مفتوحا. هنا تبزغ إمكانية الحرية فالواقع لأول مرّة يصبح حالة قابلة للتغير، حالة طارئة وليست حالة ضرورية. المعلم هنا ليس ملقنا ومهيمنا فلا حرية ترجى من التلقين والهيمنة ولكنه تجربة وخبرة منفتحة على خبرات طلابه. المعلم هنا فاتح لقناة تواصل داخل جماعة الطلاب. المعلم أو المعلمة ينخرطون في عملية تحرر وتحرير. تجارب الطالبات والطلاب هي علامات على الواقع ومداخل لاكتشافه ومعرفته وتغييره. الحرية فعل مستمر يقوم على تحويل دائم للواقع إلى سؤال. ولا غرابة فالسؤال هو انفتاح الوجود.
الحوار هو منهج تربية التحرر لأن الحوار هو العلاقة الأكمل في تحقيق الحرية والمساواة. الحوار اعتراف بالآخر وانفتاح عليه. بل هو قناة مفتوحة تضمن التأثير والتأثر، تضمن الأخذ والعطاء.
الحوار هنا ليس استنطاق الآخرين للحصول على إجابة محددة بل هو مشاركة لفتح إمكان إجابات متنوعة ومختلفة حرة. الحوار الحقيقي داخل الصف، مثلا، هو الحوار الذي يمتد لتجربة الجميع في الحياة ليفتحها للسؤال والتفكير، ليحولها من ضرورة إلى خيار مفتوح. الحوار الذي يخلق للطفل كما للبالغ أفقا جديدا يمكن أن يحقق على أرض الواقع كما يفتح له باب الخيال. بالحوار يشعر الإنسان بوجوده المعتبر لدى الآخرين. في الحوار يعرف الفرد ذاته من خلال إظهارها كما هي للآخرين وأخذ ردود فعلهم حيالها. الحوار فعل آمن في عالم من الخوف فهو إعادة خلق جديدة لعالم جديد بدلا من العالم الغريب الذي أصبح مألوفا بمحدودية الحرية.
تربية التحرر بطبيعتها استثناء وخروج عن التقليد ولذا فهي مقاومة ونضال. فالطالبة في مدرستها أو المعلمة في فصلها أو الأستاذ في جامعته أو الإنسان عموما في محيطه الاجتماعي محاط بشبكة من العلاقات والعوامل السابقة على وجوده والضاغطة عليه باستمرار. هذه الشبكة لها حراسها وحماتها من حماة الواقع وحرّاسه. أيضا هذه الشبكة تدار من قبل جماعات من البشر يعطون لأنفسهم حق إدارة الواقع وتسييره ويمنعون الآخرين من هذا الحق. كلا الطرفين يقدم حكاية متشابهة. الأولون يرددون "الواقع غير قابل للتغيير" والآخرون يرددون "نحن فقط من يستطيع التغيير". وسط هذه المعادلة تولد عملية التعليم باعتبارها تحررا وشكاً. باعتبارها بناء لإمكان جديد. للتربية التحرر رسالة عظيمة لكل إنسان تقول فيها إن بإمكانه أن يقوم بالتغيير أن يحوّل الأشياء، أن يحوّل ذاته كما يريد، رسالة تقول إن قوّة جبّارة لا تُوازى أصبحت ملكا له، قوة الإرادة في أن يصبح حرا.