منذ سنوات، وأنا أقول للأقربين: إن أبها تحتاج إلى روائي شاعر عاشق، يكتبها بلغةٍ شاعرة قادرة على استكمال عناصر السرد، ومتمكنة من خلق الرؤية في الوقت نفسه، ويبدو أن ما كانت أبها تحتاجه قد وُجد.
أجزم أن رواية "الباب الطارف"، لعبير العلي، هي الرواية الأولى التي كتبتْ أبها كلها، واستغرقتها أبها منذ الإهداء إلى "ثالوث حب في صباحات أبها"، حتى الباب البصري الأخير، وهو مجموعة من الصور الأبهية الدالة على أن المكان هو المبتدأ والمنتهى والخبر والهدف.
يقول الدكتور عبدالحميد الحسامي عن الرواية في تقديمها: "كتبتها أنامل أنثى بلغةٍ غضّةٍ، صاغتها من حرير الضباب، وعطرتْها بـ"عبير" المشاعر، ونكهة المكان.."، وهو حكم محايد من ناقد لا ينتسب بروحه وتاريخه إلى المكان، كصاحبة الرواية، وكاتب هذه السطور.
بعض الدارسين يذهبون إلى أن المكان هو الأساس في الرواية الحديثة، بمعنى أنه لا يكون مطلقا إلا في القصص التقليدية، أو القديمة، وذلك مسايرة لتصور القيم والرؤى تصورا مطلقا، بينما تبرز ـ في الرواية الحديثة ـ الحاجة إلى تحديد الأماكن من حيث: مواقعها وسماتها وآثارها وزوايا النظر إليها، وهو ما كان عند عبير العلي بامتياز نادر.
يمكن القول إن "الباب الطارف"، رواية رومانسية، عند النظر إليها من زاوية أن الرومانسيين يحصرون الأماكن في عناصر الطبيعة الجاذبة والأليفة، ويربطونها ـ بوساطة حبل خفي ـ بوجدان الشخصيات، وذلك على النقيض من الواقعيين الذين ينسبون المكان إلى البيئة بمعناها العلمي، لتكون عناصرها معطيات مؤثرة في الشخصيات، دون أن يشعر القارئ بحميميةٍ بين الراوي، أو الكاتب، أو الشخصيات من جهة، والمكان من أخرى.
في باب عبير العلي الطارف، تظهر الحميمية ناصعة كسحابة تعتلي "ذرة". تقول: "تنام أبها بين ذراعي بردٍ وريح، وتغسل وجهها في الصباح ككل صباح بتعثر خيوط الشمس، بين زحام ندف الغيم وأصوات العصافير مع أصوات المآذن، تفتح صدرها للحياة وتمضي.."، ومثل هذه الفقرة تضفي طابعاً نفسياً على العمل منذ وريقاته الأولى؛ ذلك أن تعني الانشراح والحب، فضلا عما يمكن أن يلعبه المكان من دور في تحديد ملامح الشخصية الرئيسة "الراوية نفسها"، وكونها شخصية رومانسية.. محبة للحياة..عاشقة للجمال الكامن في تفاصيل المكان.. مبغضة للانغلاق، وكارهة للفظة "حرمة"، وهو ما ساير الرواية منذ البدء حتى الرشفات اللغوية الأخيرة، في حي الضباب وجبل نهران، إلى حركة التمرد الحوثي التي أفقدت الأبهية "سعدها".
المكان هو الركن في "الباب الطارف"، بل إنه هو محرك الزمن والفصول؛ فالصيف في أبها ذو سمات خاصة ليست إلا له، حيث يصير بيت جدها حسن المهيب مزاراً للقادمين من جهات القيظ واللهيب، أما حي النصب، فهو الموهِم بالواقع، لأنها تصفه كما هو، مكثرة من تفاصيله الدقيقة، وملامحه المميزة.
التفاصيل كثيرة، وملامح أبها في عيني عبير العلي، ذات أغصان خضراء متعانقة، والمساحة انتهت.. سنعود.