يأخذك صوت الرقيقة ماجدة الرومي في نزاريتها "أحبك جدا "إلى المساحات الشاسعة داخلك، كأنها تعيد ترتيبنا والحبّ النبيل. أتذكر كنتُ صغيرة قد لا أتجاوز الخمس حين اكتشفت هذا النوع من الحب، تعلمتُه خلال مراقبتي عصافير الحب "عاشق ومعشوق"، فوالدتي كانت تُحب رعايتها ببيتنا الذي سكن يوما ذاكرة "الهنداوية" على عتبات جدة القديمة. كانت هذه العصافير الصغيرة شغلي الشاغل، فأمي لا تسمح لي بالخروج، دون رفقتها، وكان هناك عصفورا تسليتي "البيتوتية"، أتأملهما وأحاول فهمهما، حتى استيقظت يوما لأفجع بموت أحدهما، ولم أكن أعرف ماذا يعني الموت!! لكني أتذكر جيدا أن أخويّ اللذين يكبراني بسنوات قررا إقامة جنازة للعصفور، ولم أعرف لماذا!؟ فرافقتهما بالحارة، رأيتهما يحفران حفرة صغيرة وأختي تبكي، دفناه ثم نسيناه سريعا كعادة الإنسان، لكني لم أنسه، رجعتُ أتأمل العصفور الآخر كعادتي، فلم يعد يغني كما كان مع رفيقه، ولا يلعب ولا يأكل ويذبل أكثر فأكثر، أسال أمي: لماذا؟ فتجيبني"حزين على موت زوجته"! وربما أشفقت عليّ، فاشترت عصافير أخرى، إلا أن "عصفوري" استمر حزينا ومنطويا، وخلال أيام مات!! بعدها، وربما أعترف الآن لوالدتي، اختلست وقتا خفية عنها، وفتحتُ باب القفص للعصافير الجديدة وهربتها، لا أعرف لماذا فعلت ذلك! أظنّ أنني خفتُ أن أرها تموت، وأرى إخوتي ينثرون عليها التراب تقليدا لطقوس الكبار!
بعد عام تقريبا، كان جارنا المسن الذي لا أنساه أبدا، وكيف أنساه وهو عصر كل يوم كان يجلس على عتبة بيته يراقب المارة، وقد مرض جدا وغاب، وافتقدتُ مع غيابه زيارة زوجته المسنة أيضا"خالة مريم" لبيتنا.. لقد غابت عن الجميع لتُرافقه وتُمرضه وتخشى اللحظة التي لم تكن في حسبانها لما يقارب خمس وأربعين سنة عمرهما معا، لم ينجبا خلالها أولادا، ولم يفكر هو بالزواج عليها، حتى أخذتني أمي ذات صباح لأدلف معها في زحمة نسوة باكيات اكتظ بهن بيتها الصغير والمتواضع، ولم أعرف ماذا حصل إلا حين رأيت خالة مريم ذابلة جدا بتجاعيد وجهها خارطة حزن لم أرها من قبل، "مات زوجها" سمعت أمي، فتذكرت "العصافير" وخفت على خالة مريم كثيرا، ذهبت لحضنها، قبلتها كما كانت تُقبلني وتشتري لي"الحُمر" و"الإسكريم" من خالة "حمامة" في حارتنا، فسحبتني أمي ونهرتني لأتأدب في "العزاء"، وبعدها استمر غيابها أيام عدتها والتي لم تزد عن شهر، وغادرت سريعا الحياة حزنا على فراق رفيقها، رحمهما الله!
ياااااه عصفت هذه الذكريات وأنا أقرأ دراسة بريطانية منشورة بإحدى الصحف تُفيد أن الحزن لفراق حبيب يؤثر على الخلايا والمناعة ويزداد مع تقدم السن فيصيب الإنسان بالالتهابات واكتئاب يوديان بحياته! قلت لنفسي: سبحان الله، سيبقى الحُب نبيلا متى ما بقي الإنسان نبيلا، كنتُ حينها أنصت إلى الماجدة وإحساسها المحلق تغني"أحبك..أحبك وأعرف أن هواك انتحار/ وأني حين سأكمل دوري سيرخى علي..علي الستار .."
http://www.youtube.com/watch?v=_n0vM-__yBE