هذا التناقض في النظر لواقع تلك الدول الإسلامية بين وصوف التفاخر في المدارس من جهة، والنعت أيام الجامعة بكل الأوصاف ذات المنبع العنصري، كانت أزمة حقيقية في فهمي لحقيقة التاريخ، وهل يمكن الاعتماد عليه في دراسة تجارب الأمم من أجل الخروج بدروس حقيقية للمستقبل، فمع مرور الأيام وزيادة التجارب الشخصية وجدت أن التاريخ تخصص يعد أقرب لفن منه لعلم، حيث إنه يعتمد كثيرا على الجانب الإبداعي في النقل، مثله مثل كاتب الرواية الذي يملك من القدرة الفائقة في الوصف بحيث تتحول أعماله في المستقبل من حكايات متخيلة في ذهن كاتبها إلى حقيقة في مخيلة أبناء العصور التالية، إلى حد أنهم قد يجعلونها جزءا من واقع التاريخ.
هذا الواقع يمكن أن نراه اليوم للأسف في عمليات إعادة كتابة التاريخ، ولكن ليس ذلك الغارق في الماضي البعيد بل ذلك الذي عايشناه نحن أبناء السبعينات والثمانينات الميلادية، فموجات التلاعب بحقائق الأحداث القريبة من تزوير لمراحل مهمة من تاريخنا المعاصر ينبئ بحالة من التنكر، أو كما يقال (اللعب على النفس)، بحيث نحاول أن نقول إن الأمور لم تكن كذلك من أجل أن نخرج لأنفسنا واقعا نأمل أن يكون أكثر إيجابية، فحين يحاول البعض وصف مرحلة الناصرية وما تلاها على سبيل المثال بكونها كانت حالة من العدالة الاجتماعية والقوة القومية، وذلك كله من أجل شحذ همم الجموع لإعادة مجد مصطنع يخدم أهداف جماعة أو توجه ما، فإن ذلك دون شك سيدفعنا لأن نجتر واقعا أخذ بالأمم العربية لغياهب التشتت والتخلف التي عاشها العالم العربي منذ ذلك الحين وحتى تاريخ قريب وربما لا زال، فواقع العالم العربي اليوم يبقى واقعا منعزلا عن وصفه بعالم، فهو ليس وحدة واحدة ولا هو كيان متناسق الملامح ولا جامعته التي تعقد اجتماعاتها بين الحين والآخر يمكن النظر لها سوى بأنها ملتقى لتأكيد ما اعتاد العرب على تأكيده منذ أكثر من ستين عاما، فالقضايا المركزية هي ذاتها، والخلافات هي ذاتها وإن اختلفت الدوافع والدول وحالة الفرقة بقيت كما هي ولا يبدو أن هناك أي ملمح لتغير هذا الحال.
تذكرت قصة التاريخ هذه وحالة التناقض التي عشتها أيام الدراسة الجامعية في أعقاب زيارتي الأسبوع المنصرم لعدد من مدن الأندلس في إسبانيا، وتحديدا غرناطة وإشبيلية وقرطبة، فقد أتيت كسائح يملؤه الفضول كغيري وتركتها كعربي مسلم أغرقتني الحيرة والسؤال والشك في كثير من ذلك التاريخ الذي نشأنا عليه.
لا أقصد بذلك أني أشك بالضرورة بكل ما تناقلته كتب التاريخ عن عظمة العرب والمسلمين في الأندلس، ولكني أقف موقف الشاك من فكرة علاقة التاريخ بالحضارة وقدرة كل منهما على فرض إرادته على الآخر، فتجربتنا في الشرق تبين أن كل حضارة تأتي تعمل في أول قراراتها على طمس الحضارة التي سبقتها، فدعاة الحضارة العربية أتوا ليمجدوا لا شيء سوى العرق، ودعاة إعادة مجد الحضارة والأمة الإسلامية أتوا ليلغوا كل مظاهر الأمم الأخرى التي عاشت بين جنبات أراضينا، ودعاة العلمنة وحضارة التغريب ألغوا بسبق إصرار وترصد كل مظاهر التراث والدين التي ضبطت أفئدة الشعوب لمئات السنين، بينما في شوارع إشبيلية بقي كل حجر إسلامي في محله، وفي قرطبة استمر كل اسم عربي نبراسا يفخر به ابن المدينة، وقصور الأمراء وحكام تلك العهود في غرناطة أصبحت مزارا للملايين من شرق الأرض ومغربها ومفخرة لشعب لم يبق في ملامح أبنائه إلا تاريخ حرصوا على ألا يتنكرون له أو يزورونه، ففيه شيء من مجد ماض وإن كان لا يشبههم، فهم اليوم امتداد لحضارة حكمتهم وإن كتب لنا التاريخ أنهم انقلبوا عليه وأرادوا واقعا يشبههم وحدهم.
كتابة التاريخ لا تحتاج إعادة كتابة كما يقول البعض، فذلك في حد ذاته يطرح ألف سؤال حول كاتبه الجديد، بل ربما نحتاج لإعادة قراءة ملامح الحضارات وتفكيك أدبياتها ومقارنتها بعد ذلك بما نقلته لنا كتب التاريخ من المصدرين المتناقضين، فما الذي يؤكد لنا أن كتب التاريخ التي وضعها المسلمون تروي لنا قصص التاريخ كما حدثت فعلا، فكما قيل لنا ونحن على مقاعد الدراسة المتوسطة أن المؤرخين المسيحيين زوروا تاريخ الحروب الصليبية، فما المانع في أن نكون نحن كذلك تلاعبنا وبهرنا تاريخنا، والذي كما اكتشفت بعد ذلك بسنوات وعلى مقعد الدراسة الجامعية أنه لم يكن كما قيل لنا حكما إسلاميا بالمفهوم الإسلامي والتعريف السلفي!
التاريخ لا يكتبه المنتصرون دائما، بل يكتبه في كثير من الأحيان المبدعون أصحاب الخيال الواسع والمفردات والتعابير الرنانة.