لنمش في نشاط ومغامرة. فقد دللت الأمم المغامرة على أنها حرية بالوقوف أمام الشمس، وأنها جديرة بالحياة التي تحياها.

إن فتانا ولده أبواه في بيت العائلة فنشأ فيه، وألفه، وألف الزقاق والحارة، وربما ألف الحضرمي بائع الفول عند رأس الزقاق، والقهوة التي يجلس إليها، أقرباؤه في الحارة. فإذا صادفته مناسبة طلب إليه فيها أن يغادر بيته إلى مقر وظيفته في القرية النائية أو المدينة البعيدة، عجز عن التلبية، لأنه ألف بيته وأبوية والزقاق والحارة اللذين تربى فيهما، وربما أضاع عجزه عليه فرصة لا يستطيع أن يعوضها.

فيم كل ذلك؟


لأننا لم نألف المغامرة ولم نتعودها، ولأن المربين في البيت والمدرسة عندنا، لم يبثوا إلى اليوم في أرواحنا حب المغامرة وروح الفداء.

أما الأمم المتمدنة فقد درج أبناؤها على المغامرة والجرأة، والتلذذ بشظف العيش في الاغتراب.

ويكمل الفتى عندنا دراسته، فيتعين انتدابه إلى خارج القطر ليلتحق بالكلية التي تعين التحاقه بها، فيشعر بالوطأة القاسية، ويعاني أبواه من بعده آلاما لا يصبر عليها إلا جلد.

فيم كل هذا؟

لا شيء إلا أننا تعودنا الركون إلى أمهاتنا في البيت، ومغانينا في البرحة، ولم نترب على حب المخاطرة واقتحام الصعاب.

قلت لوالدة فارقها ابنها رحلة لإتمام التعليم. وقد شكت إليّ آلامها من البعد!

قلت لها، ألا تعلمين أن عبدالله بن الزبير دخل على أمه يستأذنها في أن يجول جولته الأخيرة في الحرب، وألا يعود إليها من غد إلا مقتولا، فأذنت له وشجعته؟

قالت: أشجعته ليحارب حتى يقتل؟

قلت: نعم، إنها شجعته ليحارب حتى يقتل!

قالت: إنها مجنونة!

قلت: إنها الحياة، قد فرغت عندما تسمّين ذات النطاقين مجنونة

ولكنها لم تفهم!

فقلت: وهل تعلمين أن عبدالله بن الزبير قال لأمه وهو يودّعها الوداع الأخير: إنني أخاف يا أماه أن يمثّلوا بي بعد أن يقتلوني. فقالت له إن الشاة لا تبالي بسلخها إذا ذبحت، فامض إلى طلبك لتعيش إن عشت كريما، أو تموت إن مت كريما.

قلت لها هذا فقالت: إنها مجنونة، وإنك مجنون عندما تصدق هذا.

وهكذا هزلت الحياة حتى بتنا نسمي الباسلات المخاطرات مجنونات. ذلك لأن البسالة التي من هذا النوع لم نتمرن عليها، ولم تتعود قلوبنا هذا الضرب من الفدائية الهائلة. فإلى أن تمتحننا الحياة بهذا، فإننا سنظل رهائن لطراوتنا، وعندما يحل اليوم الذي نصدق العزم فيه على الوثوب ومجاراة غيرنا من الناهضين، وهو قريب إن شاء الله، فإننا سنجد أنفسنا أمام أمور واقعة تهيئنا للشجاعة، وترغمنا على أخطر المغامرات.

ما رُسمت الأميركتان على خارطة الدنيا إلا نتيجة مغامرة طائفة من الناس محدودة العدد. خاطروا بأرواحهم وأبوا إلا أن يجوسوا غمار المحيطات التي لم يجرؤ عليها قبلهم بشر. وعندما صادفتهم أهوال لا تحتملها طاقة إنسان في الحياة، أبوا أن يعودوا حتى يكلل الظفر هاماتهم، أو تبتلع الأمواج أجسادهم لقمة سائغة!.

ولقد كلل الظفر هاماتهم، فاستطاعوا أن يضيفوا على مجموعة الأمم على وجه الأرض، شعبا له قيمته التي تميزه اليوم على جميع شعوب الأرض قاطبة، ثراءً وقوة ونفوذا منقطع النظير!.

فلو تقاعس الرواد الأولون وخافوا الاغتراب الذي نخافه، ولم يجسروا على المغامرة التي خاطروا بها، لما عرف العالم اليوم شيئا عن الأميركتين العظيمتين.

وحديث المغامرين بعد هؤلاء الرواد وقبلهم أطول من أن نستقصي أخبارهم فيه، وجميعها أخبار تدل على بطولة الفدائيين الأفذاذ، ومقدار جلدهم على تحمل المصاعب القاسية في سبيل آمالهم البعيدة ومراميهم!.

هذه أخبار الرحالين العرب يكتظ بها تاريخ الإسلام المجيد.

* الأعمال الكاملة 2009