جاء العيد، وأتى معه الفرح والابتهاج، والشعور بالسعادة وهي تعانق كل القلوب في أيام معدودات، جُعلت ليفرح الناس فيها، لينسوا أحزانهم ويودّعوا همومهم، ويهنئوا بعضهم بعضا، كما هنأ الشاعر البحتري ذات عيد الخليفة العباسي العاشر المتوكل، فقال «بالبر صمت وأنت أفضل صائم.. وبسنة الله الرضية تفطر/ فانعم بعيد الفطر عيدا أنه.. يوم أغر من الزمان مشهر».
فاليوم عيد، ولا صوت يعلو فوق صوت الفرح والحب والتهاني الصادقة، مع الأمنيات الصادقة بصفاء القلوب.
جاء العيد وعادت بمجيئه كثير من الذكريات، وتداعت عدد من الصور إلى الذاكرة، حنينا لأجله واشتياقا لعودته، فصور عيد الأمس دائما تحفر نقشها في الذاكرة «الزيارات بين الأهل والجيران، العيديات، حصالات فلوس العيد، كبسة الضحى نهار العيد، الحلوى، وفود الأطفال وتجمعهم مع بعضهم وهم يجولون على منازل الجيران والأقارب، اللهو بالمراجيح الخشبية التي تنصب في ميادين وزوايا شوارع الأحياء في زمن مضى، الثياب الجديدة، أصوات الأعيرة النارية مؤذنة بدخول العيد، وإعلان رؤية هلاله»، هكذا كان للعيد رونقه وبهجته التي كنا نحسّها ونلمسها في فضاءات الحياة البسيطة. غير أننا بالأمل نقول إنه ما يزال للعيد رونقه وبهجته، فله قطوف ما يزال لها في فراديس القلوب محل ومكان، رغم المتغّيرات التي لفّت حياة الناس بين زمنين، وغياب كثير من طقوس أعيادنا التي ألفناها صغارا، ومن يعرفها وعاشها فلا يمكنه أن يلومنا عندما يرى علينا اشتداد الحنين شوقا نحوها وإليها، ونحو هاتيك الصباحات الوضّاءة التي تأتينا، وبعد لم نكن قد خلدنا ليلتها إلى فرشنا فرحا بها وبالعيد السعيد، ومعها نداءات الحق «تكبيرات العيد»، ونحن نسابق أنسام تلك الصباحات المرسلة بتباشير السعادة، زاهين بثيابنا الجديدة، مهرولين من بيت إلى بيت، ومن باب إلى باب، نصافح الأيادي، وتصافحنا القلوب، نتلقّى القبلات، ونستقبل الابتسامات، ونرسل الضحكات لتشرق في فم الزمن والعمر واللحظة سعادة وفرحة وبهجة، وليس على البال ما يشغلنا -آنذاك- حينما كنا صغارا أكثر من اللهو والمرح واللعب والحلوى.
جاء العيد، وصحيحٌ، أن العيد يأتي إلينا ومعنا ولنا وبيننا «قلوب موجوعة بالألم»، إما بفقد أحبة رحلوا عنّا في لحظات، وقد خلف رحيلهم وجعا في قلوبنا، رحلوا وما رحلت ذكراهم ولا صورهم، رغم بعدهم عنا، أو لأجل أناس أنهكهم المرض، وأتعبهم الألم، نتألم كل يوم ونحن نراهم وهم يصارعون التعب، ونرقبهم وهم في نقص من الأيام، وما بيدنا غير التسليم لأمر الخالق، أو بسبب من باعدتهم الغربة عنّا، وغيبتهم المسافات، وسافرت بهم الدروب رغم عنّا وعنهم، ولكنهم ما غابوا عن مساكنهم في قلوبنا، نستعيد ذكرياتهم، ونشتاق إلى لقياهم، يصدق في حالنا معهم قول أحدهم «وتطلبهم عيني وهم في سوادها.. ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي».
هذه اللواعج من الأحزان التي تسكن القلوب، كل القلوب، وكلنا ذاك الرجل قد تسرق فرحة العيد من قلوبنا، وحال لسان كل واحد منّا معايدة المتنبي الشاكية وهو ينتظر إطلالة هلال العيد «عيد بأي حال جئت يا عيد... بما مضى أم بأمر فيك تجديد»، لكن نرجع لنقول «إنه اليوم عيد».
اليوم، نحن مطالبون فيه بأن نكتم أحزاننا وننسى آلامنا، ونغزل للعيد عقودا من البهجة والسرور والفرح، كي نواري خلفها أوجاعنا مهما كانت، ونركب مع الناس موجة الفرح، ونبتهج مع من يبادلنا بصدق مشاعره وفيض أحاسيسه.
إنه اليوم عيد، فمن أجله علينا أن نرتدي الثوب الجديد، من أجل الصغار كي يفرحوا فما ذنبهم بأقدار الكبار، ومن أجل الكبار ممن نفرح بحسهم وهم حولنا وبيننا ومعنا وفيهم من رائحة الراحلين، يجب أن نفرح بالعيد كي يبقى للحياة في عروقهم نبض يشعرهم بالأمل، وليبقى في نفوسنا نحن أيضا للحياة طعم يقودنا للعيش بإحساس الفرح وطعم السعادة والتفاؤل، فقلوبنا متعطشة للشعور بالبشر والفرح والسعادة، بحاجة إلى سكب دفقات من أمل الحياة، كي تقوى على عبور رحلة العمر. ورحم الله الشاعر المصري زكي مبارك، وهو يقول «العيد للروح مثل الماء للعود».