تذكرت سيرة فيلسوف الوضعية المنطقية زكي نجيب محمود، وأنا أقرأ كتاب الأمير خالد الفيصل «إن لم.. فمن..!!؟» (1438)، بعنوانه الغامض الغريب، وقطعه المباين للمعهود من الكتب، وأسلوب تسطيره الذي يشبه الشعر، وما هو بشعر، وإن لم يخله منه، كلما واتاه ذلك.

قلت: إن كتاب خالد الفيصل أذكرني سيرة زكي نجيب محمود «حصاد السنين»، تلك الماتعة الحزينة، فهل كان كتاب الأمير مشبها «تغريدة البجعة»؟ ظاهره كلام عذب جميل، تلوح فيه، من بعيد، نغمة شجية حزينة؟

لم يرد الأمير أن يصنف كتابه، وقطع على القراء والنقاد الطريق؛ لم يسمه «مذكرات شخصية»، ولا «سيرة ذاتية»، ولا «تقارير رسمية»، ودعا هذا الضرب من الكتابة «تجربة إنسانية»، وكأنه أعرض عن «الاسم»، وآثر «المسمى»، وعدا الشكل: «السيرة»، و«المذكرات»، وأراد المضمون، وحارت المكتبة الوطنية فصنفت الكتاب «نثرا عربيا»، ثم استراحت!


أقرب الظن أن خالد الفيصل اتقى «النوع الأدبي»، بحدوده ورسومه، وتحاماه، ولم يشأ أن يعنو له، أو كأنه أراد أن يتفلت من قواعد الفن، حتى يكون بمنجاة من نقاده، يقوي ذلك أن جمهرة من الكتاب ترخصوا، حين أنشؤوا شيئا في أحوال أنفسهم، ولم يلحوا، كثيرا، على «النوع الأدبي»، واحترزوا فما أطلقوا على ما أنشؤوه عبارة «سيرة ذاتية»، وإن آنس بعضهم في كلمة «مذكرات» ما يعفيهم من قواعد النقاد ومماحكاتهم، وكانت «قصة الحياة»، و«الذكريات»، و«المذكرات» أسامي تحتملها الكتابة، وتدنيها من «السيرة الذاتية»، مهما ظن ابتعادها، ولعل الأمير جلا شيئا من حياته في هذه «الشذرات»، فيها شيء من سيرته، لكنها ليست كل سيرته، وأرجأ الكتابة عن حياته الخاصة، وما اتصل بنفسه، وفرحه وألمه، بعيدا عن رسوم «الإمارة» وتقاليدها، إلى كتاب آخر لا يضيره، آنئذ أن يدعوه بملء فمه: «سيرة ذاتية».

ورفع الكتابة إلى أب أعلى، ليس ترفا يطلبه النقاد والدارسون، ولا مندوحة لنا عن «التسمية»، نطلقها على كل ما يتصل بنا، فإذا رأيتني دعوت هذا الضرب من الكتابة «سيرة ذاتية»، فلا تحمل قولي على ولع النقاد بـ«النوع الأدبي»، ولك أن تلتمس فيه أصلا في طبع الإنسان، غايته أن يدعو الأشياء بأسمائها، مهما أراد الكاتب والأديب التفلت من ضيق التسمية إلى رحابة الحياة، ونحن نقرأ القصيدة ونرفعها، رأسا إلى الشعر، وكذلك المقامة، والقصة، والرواية، والمسرحية. على أن بوسع النقاد أن يخالفوا الأمير، فيرتضوا «التجربة الإنسانية» معنى للكتابة ومضمونا لها، لكنهم لن يعدلوا عن رفع هذا الضرب من التأليف إلى أبيه الأدبي الأعلى، ويروه لونا من ألوان «السيرة الذاتية»، أو «سيرة ذاتية إلا قليلا»! ولا بأس على الأمير إن خولف، فعليه أن يكتب، وعلى النقاد أن يعربوا!

أنشأ الأمير كتابه لما أشرف على الثمانين، وليس شرطا أن يكتب الإنسان في شأن نفسه متى علت سنه، وإن شاع أن يكتب المرء سيرته في شيخوخته، وكأنما أشعرته الكتابة عن ماضيه أنه عاش عمره مرتين، أو عساه أدرك أنه ليست له حياة إلا ما عاشه فرواه، كما يقول غارثيا ماركيز، فإذا ولي أمرا من أمور الناس فحسبه أن يتذكر ما أنجزه، يريد به تذكير الناس وتقييد أثر يدل عليه، على أن عهد خالد الفيصل بـ«السيرة الذاتية» قديم، يؤيد ذلك كتابه «مسافة للتنمية وشاهد عيان» (1419)، يوم كان أميرا لعسير، وإن لم نستطع أن نجوز به «عتبة الذاتية»، مهما أراده الأمير كتابا في «التنمية»، وما يدخل في عدادها.

والحق أن هناك فرقا بين كتابي «مسافة للتنمية وشاهد عيان»، و«إن لم... فمن..!!؟»؛ كتب الأول والأمير في الستين (1419)، والآخر وهو في التاسعة والسبعين (1438)، وفرقٌ في الروح والنفس والجسد والغاية. صحيح أن الأمير لم يخل كتابه الأخير من كلام في «التنمية»، لكنه تميز بذلك «البوح» الحزين، وصحيح أنه أظهرنا في الكتاب الأول على قطع من نفسه، أدنته من أدب «السيرة الذاتية»، لكن كتابه هذا الأخير لعله أراد أن يظهرنا، في بعض فصوله، على «نفسه»، بعيدا عن رسوم «الإمارة» وحدودها، وأباح لقارئه أن يلم بشيء من حياته؛ «طفلا، وفتى، وشابا، وكهلا، وشيخا»، على أن ما أداه إلينا لم يخل من حذر «الأمير»، ففسح لنا من تلك الحياة قدرا، وحجب قدرا آخر، وليس للسيرة الذاتية من قوام إلا بهما.

ويخيل إلي أن الكتاب يظهرنا على شيء من «التنازع» في شخصية خالد الفيصل؛ بين (الطفل، الفتى، الشاب)، و(الأمير). ينزع الفتى إلى طبيعة الفتيان، وتغالبه تقاليد «الإمارة»، مهما كان صبيا، يجلس في مجلس خاله الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي، في الأحساء، «طفلا لا تصل قدماي الأرض، ولكنني كنت مأخوذا بحزمه وعدله وقلة كلامه»، ويسوق إلينا شعور «الطفل» لما رأى أول مرة جده «الملك». كان الناس يستقبلون في مطار الأحساء، «الملك عبدالعزيز»، ونائبه في الحجاز «الأمير فيصل»، أما الطفل فكان يرمي بصره فيما تراحب من الأرض، يفتش عن «جده»، و«أبيه»:

لم أعرف نفسي فقط في الأحساء

ولكنني قابلت – أيضا – وعرفت جدي ووالدي

لأول مرة على أرضها

حضر الملك عبدالعزيز للأحساء

يتفقد شعبه ودولته

وهب الناس لاستقباله وحسن وفادته

وخرجت وأخي سعد إلى المطار

أرض فضاء لا مبنى عليها ولا شعار

وهبطت الطائرة

ولم تلفت انتباهي

لأني أبحث عن غيرها

وترجل منها اثنان!!

لم أشاهد مثلهما أحدا في حياتي

وتسمرت قدماي.. وتعلقت عيناي

وتحققت أمنياتي

ويلقانا هذا الشعور مرة أخرى، حين هبط الطفل خالد مدينة جدة، ورأى لأول مرة أخاه الأمير محمدا يستقبله في المطار، فجعل ينظر إليه بعين ملؤها الدهش، ويتفحصه – كما قال – من رأسه إلى أخمص قدميه. لكن، مهلا، فللإمارة تقاليدها، وعلى الأمير - ولو كان طفلا، أو فتى - أن ينزل على شرط تلك التقاليد.

تلقن الفتى خالد من والدته أول درس من دروس الإمارة، لما آب إلى مسقط رأسه مكة المكرمة:

أما في مكة فقد عدنا إلى بيت «حارة الباب»

الذي ولدت فيه

(...)

هناك

نزلت معي والدتي من الطابق العلوي

إلى الطابق الأرضي يوما

وأشارت إلى غرفة المجلس وقالت:

هذا مجلس فيصل

وأنت ابن فيصل

اجلس للناس في مجلس أبيك

وأحسن استقبالهم

واستمع واستوعب

واتصل «التنازع» بين طبيعة «الطفل» وتقاليد «الإمارة»، حتى انتصرت هذه الأخيرة، فليس للأمير وإن كان «طفلا»، أن يلعب، وليس له أن يلوذ بطبعه، وكانت نشأته مترجحة بين «المراقبة والمعاقبة»؛ يراه المرافق الموكول به يلعب مع أقرانه، فينهره، ويشده إلى «التقاليد» التي لا ينبغي له أن يتأخر عنها:

كان كلما رآني ألعب مع الأطفال

ينهرني ويقول.. بلهجته:

«نبيك مثل أبوك تشد وتنزل

وانت تبي تلعب مع البزران؟!

أي: نريدك كأبيك تقود الرجال

وأنت تريد اللعب مع الأطفال؟!

حينئذ، تعلم الطفل خالد أن يحزن كالأطفال، ويتخيل نفسه مع الرجال، مهما كانت «تقاليد الإمارة» قاسية على قلب الطفل ووجدانه.

ويعود إلى الطائف، إثر تعثر دراسته في أميركا، فيلقاه أستاذه المكي غاضبا

إذا بأستاذ لنا في النموذجية

يقترب مني.. فسلمت عليه.. ولكنه كان غاضبا

يقول بلهجته المكية:

«اخس.. كسفتنا الله يكسفك..

ضيعت أربع سنين صايع في أميركا..

ما دخلت الجامعة حتى الآن؟!»

يأخذ خالد الفيصل قارئ «سيرته؟»، فنعرف قدرا صالحا من نشأته، ما بين الميلاد في مكة المكرمة سنة 1359، والنشأة في الأحساء، وإلمامه، أمدا قصيرا بالرياض. وما هي حتى يؤوب إلى مكة المكرمة، وتنقلت حياته بين جدة والطائف، فإذا استوفى تعليمه العام اختير له، ولإخوته، إتمام الدراسة الجامعية في أميركا، قبل أن يقرر قطع دراسته فيها، ويؤثر عليها بريطانيا وجامعتها العريقة أكسفورد، وإذا بمن إليهم الأمر يفوضون إليه العمل مديرا لرعاية الشباب، ثم نلقاه بعد حين أميرا لعسير سبعة وثلاثين عاما، فأميرا لمكة المكرمة، فوزيرا للتربية والتعليم، لكنه لا يلبث في الوزارة غير قليل، حتى يسمى «مستشارا لملك البلاد»، وأميرا لمكة المكرمة، مرة أخرى.

وفي الكتاب – متى استوفيناه – قطع من نفس خالد الفيصل وذاته، ولولا هذه«الذاتية»، لعد الكتاب «تقريرا» أو«سجلا»، أراد الأمير من ورائه تقييد ما أنجز، ولا ضير في ذلك ما وفى الكاتب لتلك «الذاتية» التي تطغى، فيكون الكتاب «سيرة ذاتية»، وتضعف فإذا هو «تاريخ» كأي كتاب في التاريخ، أو «تقرير» لا يباين سواه من التقارير. وعندي أن الكتاب أفلحت فصوله الأولى، خاصة في أن تصلنا بـ «نفس» خالد الفيصل، فإذا تقدمنا فيه، كان لهيئة «الأمير» «المسؤول» الغلبة على ما سواها، وشيئا فشيئا يضمر ما عددناه «سيرة ذاتية»، ويذوي ما فيه من «ذاتية»، لولا أنه يلوذ بنفسه، فنظهر على شيء من ألمه وحزنه، ولولا قصائده ومقطعاته التي بعثت «الذاتية»، كلما أوشك أثرها أن يضمر، وسرعان ما نستعيد ذلك الطفل والفتى والشاب الذي أرادته «تقاليد الإمارة» على أن يكون، في كل أحواله «جادا»، كما رآه أستاذه في أميركا العلامة المؤرخ الجليل الدكتور فيليب حتي!

أثبت خالد الفيصل على الغلاف الأخير لكتابه عبارة «كتاب ليس فيه أنا»، فهل خلا الكتاب من أثر هذه الكلمة وسطوتها؟

كأنما أراد خالد الفيصل أن يفر من هذه «الأنا» البغيضة، ولطالما اتقى الكاتب المسلم، في ثقافتنا هذه الكلمة، فإذا اضطر إليها حمل ما أنشأه في شأن نفسه على مقصود الآية الكريمة (وأما بنعمة ربك فحدث) [الضحى: 11]، أو لعله أراد «مخاتلة» القارئ و«مشاغبته»، حتى يضرب في غابة «التصنيف» إلى غير نهاية، ملقيا على الكتاب «قلق التسمية». وهل بمقدور كاتب - مهما أراد - النجاة من «أنا»؟ أما إذا أخذنا برأي للناقد الأميركي بول ديمان، يعتد فيه كل أنواع الكتابة، مهما اختلفت، لونا من ألوان السيرة الذاتية، وأن أي كتاب يحمل اسم مؤلف ما، هو بعض آثار ذلك النوع الأدبي فلا سبيل عندئذ إلى اتقاء خالد الفيصل في فاتحة كتابه ومنتصفه، عبارة «سيرة ذاتية»، إلا في حالة واحدة، أصلها غائر في ثقافتنا، يتهيب الكاتب المسلم فيها الحديث عن النفس، ويتجنب تلك «الأنا» التي لا سبيل إلى اتقائها!