ما أصعب حال من يعاني من محنة الركض الدائم والمتواصل داخل دائرة الوهم، بحثاً عن زاوية لها، بغية الخروج والانعتاق منها. إن حالة المصاب بداء دوار الوهم والركض منه وإليه وحوله وحواليه، هي حالة إنسانية بائسة، تدعو للشفقة أكثر مما تدعو للغضب منه أو حتى للضحك عليه. وتكون محنة المصاب بداء دوار الركض داخل دائرة الوهم، محنة وجودية أكثر منها بؤساً وشقاءً عابراً، ولو كان يبدو على ظاهرها ذلك. وذلك عندما يتمتع الراكض داخل دائرة الوهم بأدوات معرفية بسيطة أو متقدمة نوعاً ما، يحيل بها، عملية ركضه المرهقة له والتي تستنزف قواه الذهنية والجسدية المتبقية لديه إلى بطولة وهمية ضد أعداء وهميين متآمرين عليه وعلى من حوله، فيحدث ركضه هذا ربكة لمن هم حوله عن طريق نقل عدوى وهم الركض داخل دائرة وهم الركض لهم كذلك.

وهنا تتخلق داخل مجتمع المصاب أو المصابين بداء دوار وهم الركض داخل دائرة الوهم، لمطاردة أعداء وهميين، ميادين ماراثونية وهمية، يُحشد لها متفرجون يعشقون مطاردة الوهم والأعداء الوهميين كذلك، ولكن سيقانهم المعرفية لا تساعدهم على ذلك ويكتفون بالمشاهدة والتصفيق والتطبيل للراكضين الأصليين والصراخ والزعيق على الأعداء الوهميين، وهنا تحدث في المجتمع أزمة تراثية ونفس - ثقافية.

من الناحية التراثية، يقل عدد مشاهدي سباقات الهجن والمستمتعين بركض المليحا وشهيبان، مما قد يصيبهما بالإحباط والإضراب عن الركض فتنقرض لدينا رياضة شعبية حماسية محسوسة وملموسة، ضاربة في وجدان تاريخنا الرياضي. حيث تصبح رياضة الاستمتاع بالركض ومشاهدة الراكضين داخل دائرة الوهم، الرياضة الشعبية المحببة والمفضلة على مشاهدة مطاردة المليحا وشهيبان في سباقات الهجن وعلى غيرها من مسابقات ومنافسات علمية وثقافية وفنية.

أما من ناحية النفس – ثقافية، فهي كارثية مؤقتاً على المجتمع وسيتعافى منها عندما يتجاوز مرحلة المخاض التي يمر بها، لمرحلة ولادة مؤسساته ونظمه وقوانينه وثقافته المدنية، ليستقر كمجتمع مدني متصالح مع نفسه، يسعى لتطوره ورقيه، بكل همة واقتدار، مثله مثل أي مجتمع بشري معافى. إن محنة وهم الركض خلف الأشباح من عين وسحر وجن يتلبسون الناس ومطاردتها، هي رياضة شعبوية تقليدية غابرة في القدم، صيغت لها مناهج وأساليب وأدوات طلسمية وطقوس كهنوتية، أي إنها مكتملة النضوج والتجذر في الوجدان الشعبوي، حيث هي رياضة وهمية، تحولت لصناعة حقيقية تدر المليارات على الممارسين لها، والاستمتاع للمتفرجين عليها والمطبلين لها، برغم الشقاء والبؤس الذي تسببه لضحاياها.

وبما أن رياضة وهم الركض خلف العين والسحر والجن أثبتت نجاحها في المجتمع الشعبوي، لكونها ضاربة في وجدانه منذ غابر الأزمان تم إضافة طريدة جديدة على المطاردين التقليديين، العين والجني والساحر المشؤوم وهو الليبرالي الموشوم. وذلك للركض خلفه، لتتعدد الطرائد ويتعدد المطاردون لها ويكثر المطبلون والمشجعون لوهم الركض ومأزومي حب وهم الركض، ولتكثر حلبات الركض المارثونية لعشاق وهم الركض وتتسع ساحاتها لتشمل بكل أريحية كهنةً جدداً.

والكهنة الجدد يتشحون بأزياء جديدة من غتر وعقل وثياب مكوية ومسبلة وهيئات حديثة، سكسوكات ولحى محلوقة. وهمهم الركض والركض وراء الركض ولو كان الركض لمطاردة وهم لا يركض ولا يعي لماذا هم يركضون خلفه. وهذا ليس بغريب على مجتمع تقليدي دوماً يصر ويناضل ويكافح لإعادة إنتاج نفسه وبأدوات وأساليب ومناهج جديدة، تتمسح بالركض خلف الحداثة لتبارك تقليديتها.

الطريد الجديد لمتأزمي الركض خلف الوهم، هو الليبرالي، وإن شئت فسمه الليبرالي الموشوم، حيث حددوا ملامحه بدقة متناهية، لا تقل دقة عن وصف الكهنة القدماء لأنواع العين والجن والسحر، ليسهل على المشجعين والمطبلين تخيل ما هم يركضون خلفه من وهم. فمن ملامحه أنه حليق اللحية والشارب ولكن هذا ليس بشرط فقد يكون حليق اللحية فقط لا الشارب وقد يكون ممعناً بالتخفي أكثر وصاحب لحية مهذبة جداً. ومن أهدافه الخبيثة، أنه يريد سلخ أمتنا من دينها وأخلاقها وتراثها وعاداتها وتقاليدها ووطنيتها وطمس تاريخها المجيد. وهو يعمل ذلك من أجل أعداء الأمتين العربية والإسلامية ولا يستغرب كونه عميلا متعددا للفرس واليهود وللهنود والنصارى وللصينيين وحتى لعبدالله بن سلول والقرامطة والتتار، المهم عنده هو تدمير الأمة ومكتسباتها وسلخها من دينها وعاداتها وتقاليدها.

ويتلقى الليبرالي الموهوم الأوامر من السفارات ويقبض الثمن وينفذ مؤامراتهم الخبيثة على الوطن. ولتكمل المخيلة بث صورها الوهمية، لا بد من خلق طقوس للمحفل الليبرالي المتربص بأمته والمدقع في سريته. فتستحضر صور شباب مغرر بهم يقبعون خلف شاشات حاسوباتهم في غرف نومهم المغلقة، لا يملون ولا يكلون من تدشين مواقع ليبرالية، لنشر أفكار التحلل والفساد والإلحاد. وقادة هؤلاء الشباب الخبثاء يقبعون في غرف عمليات متطورة ومتقدمة، تشبه، مركز التحكم في محطة ناسا للفضاء، يصدرون منها أوامرهم للشباب، خطوة خطوة، ويملون عليهم المواضيع المطلوب طرحها الآن والمؤجلة وكيفية الرد على فلان وعلان. وكل هذه الخطط المرسومة بدقة خفية ومتناهية ما هي إلا تمهيد لدبابات وطائرات الناتو للانقضاض على وطننا، من أجل خلع حجاب المرأة وتغيير عاداتنا وقيمنا القبلية والقروية التقليدية.

هذا غير مؤتمرات وتجمعات الليبراليين التي يجتمعون فيها بالمئات خارج وداخل الوطن، للتخطيط وتنفيذ مخططاتهم في فسخ المجتمع من دينه وقيمه بواسطة منتدياتهم ورواياتهم ومعارض كتبهم وتراثهم، تمهيداً للانقضاض العظيم لدبابات وطائرات الناتو والفرس. وبما أن تفاصيل السيناريو من أماكن وديكورات وإضاءات ومكاييج وإكسسوارات وحوارات قد رسمت في أذهان العامة، فيسهل اختيار الأبطال والكومبارس في مشهد المحفل الليبرالي السري. وتتضح للمشاهد المصطف على جنبات ساحة الركض الماراثونية والمستعد بكل جوارحه المنتشية تشفيا وتقليدية، للتشجيع والتطبيل انتظارا لنزول الفارس الموهوم لمطاردة الليبرالي الموشوم.

ولا غرابة في مثل هذه المشاهد الهزلية حيث مرت بتاريخ شعوب، كانت تمر بنفس الفترة التاريخية التي نمر بها وتجاوزتها بسلام ونحن كذلك سنفعل. ولذلك فإن شاؤوا فليواصلوا ركضهم ما دام ركضهم نتاج وهم ولمطاردة وهم وفي ميادين ماراثونية وهمية ولهم مصفقون ومطبلون غير وهميين يستمتعون بذلك.