أعرف أن هناك من سيختلف معي حول تعليقي الثاني هذا حول ما كتبته مجلة (ساينس) للمرة الثانية عن موضوع الاعتماد في جامعات المملكة، وأود أن أقول إنني أدين إليه بما أكتب، وإن هذه قناعتي المنطلقة من إيماني الكامل بما أقول.. وقد يكون ذلك منطلقاً من واقع مروري وبعض زملائي بتجارب مؤلمة كانت تنطلق من عدم وعي بمركز المسؤولية الذي ينطلق منه المسؤول الأول لاتخاذ بعض القرارات، وغياب تفاصيل دقيقة تبرر القرارات والوجهات التي يتم تبنيها. وبعض تلك التفاصيل تفهم، وبعضها عصي فهمه على كثيرين.
كذلك هم ينتقدون وفي بعض الأحيان (بل في كثير منها أحيانا) يظلمون، فعلى سبيل المثال في المشروعات الكبيرة والأهداف الصعبة لا يمكن القفز على المراحل.. هذه نتفق عليها جميعا.. والثانية، لابد من التدرج. وهذه أعتقد أننا نتفق عليها.. والثالثة، هي فراسة وسياسة وذكاء المسؤول الأول في الوصول إلى أهدافه الصعبة، وهي اتخاذ بعض الخطوات التي كما يقول الرئيس أوباما فيها: "إن العمليات مهما كانت متقنة لا تكفي دون أن تكون هناك لعب سياسية"، هذه اللعبة ليس بالضرورة أن تكون سيئة، كما يبدو من العبارة لأول وهلة، لكنها قد تكون بطرق مختلفة، وسأضرب مثلاً بالتعامل مع مؤسسات البحث الكبيرة والجامعات القائدة في العالم..
فنحن نتفق جميعاً أولا على مبدأ: "إذا أردت التميز فلابد من العمل مع المتميزين"، والعمل مع المتميزين لا يمكن أن يتحقق بالكامل من البداية لاعتبارات كثيرة، أولها أن تلك المؤسسات لديها أولويات ولابد أن تتدرج مع الراغبين في التعامل معها لتقييم مستوى التعامل والجدية والأهداف قبل أن تعطي نفسها بالكامل لأي جهة.. وهم بهذا التدرج يوافقون على التعامل على المستوى الفردي، كأن يسمحوا لأفراد من منسوبيها بالتعاون مع تلك الجهات قبل أن تكون هناك شراكات بمستويات عالية.. هنا تكون خطة المسؤول التدرج وعينه على الشراكة الكاملة.. ثم يأتي المنتقدون الذين تغيب عنهم تفاصيل دقيقة وينتقدون الخطوات الأولى نحو الوصول إلى الهدف الكبير، وهنا مكمن الخطر.. فهذه الخطوات تشبه برعم الشجرة.. إذا لم نتعهده بالرعاية والحماية من تقلبات البيئة فإنه بدلاً من أن يصبح شجرة كبيرة وارفة الظلال طيبة الاُكل.. نقضي عليه بجهلنا وهو برعم صغير فنخسر الظلال الوارفة والأكل الطيب.. وأصدقكم القول، وهنا أتحدث عن تجارب، أن هذا واقعنا في مشروعاتنا، وهذا واحد من الأسباب المهمة في تخلفنا.. نقتل المبادرات في مهدها.
وهنا أوجه سؤالاً كبيراً لأحبتي أبناء مجتمعي بكافة فئاتهم: ألا تستحق كل فكرة نرى أنها واعدة التجريب؟ كلنا نردد مقولة أديسون الذي أنار لنا الكون (بإرادة الله عز وجل) الذي رد فيها على منتقديه بأنه أضاع وقته وجهده وماله في مئات المحاولات والتجارب: "أنا لم أفشل مئات المرات.. أنا اكتشفت مئات الطرق التي لا تؤدي إلى الحقيقة". وكان في مجتمع يفهم المنجزين ويحترمهم ويعرف خطواتهم وأهدافهم.
أنا أزعم أن الذي يتربع على هرم المسؤولية ويريد الإنجاز يركب المخاطر وينتهج سياسات توصله لأهدافه النبيلة رغم أنه يعرف أنه يعتري تلك السياسات (مطبات) خطرة.. وأن الكثيرين لا يدركون عمق تلك السياسات.. الحصول مثلاً على تعامل وشراكة كاملة مع إحدى أكبر المؤسسات الأكاديمية صعب جداً، لكنه قد يتم عبر مراحل وخطوات تبدأ من التعاون على المستوى الفردي، ولذلك أسباب كثيرة منها: إقناع تلك المؤسسة بالجدية، ومنها أن تختبر تلك المؤسسة حجم وإمكانات وأهداف وجدية من يتعامل معها لتصل إلى قناعة الشراكة الكاملة بعد شواهد وأدلة وأمثلة ملموسة، وليس عبر قصص جميلة تروى.. يتم ذلك بعد التواصل لفترة من الزمن يتم فيه تعارف عميق ومحسوس بين الطرفين.. هكذا يتم الوصول إلى الأهداف الكبيرة عبر مراحل وخطط وسياسات ومخططات ذكية وبارعة ومتقدمة.. يعرفها القائد المحنك وينتقدها البعض.. ثم إن الإخفاق أو الخطأ في سبيل الوصول إلى هدف كبير ونبيل يعتبر اكتشاف طريق لا يؤدي إلى الحقيقة، يتم الاستفادة والتعلم منه والمثل يقول: "النائم لا يتعثر".. وأنا هنا لا أنتقد الذين يسجلون ملاحظات على بعض المسؤولين، بالعكس بل ذلك مطلوب بشرط أن يكون النقد هادفا وبناء وغير شخصي ولا يحط من قدر المسؤول ويهمش إنجازاته..
أرصد هذه المقدمة الطويلة وأنا أشفق على أبناء مجتمعنا من لجوئهم إلى ممارسات ظالمة تحد من تبني مسؤولينا مبادرات ومشروعات كبيرة يتطلب نموها واكتمالها وحصد ثمارها المرور بمراحل يتخللها الكثير من الصعاب التي يلجأ القادة عندها إلى انتهاج بعض السياسات والإجراءات للتغلب عليها وحلها وتجاوزها.. فعلى سبيل المثال لقد تعجبنا كثيراً من وصول الكاتب أوبيكر من معهد فرت – هابر الألماني إلى رؤية إيجابية حول ما تنجزه جامعة الملك سعود لم يرها القريبون من الجامعة، وتمثلت هذه الرؤية في مقال نشرته ذات المجلة (التي سبق أن انتقدت الجامعة) بتاريخ 2 مارس 2012م،(VOL.335 ) قال بيكر الذي يعمل عضوا في برنامج الزمالة العالمي البارز (DSFP) في جامعة الملك سعود، فيه: إنه تلقى رسالة قبل ثلاث سنوات من جامعة الملك سعود تطلب منه العمل على نظام التفرغ الجزئي في مشروع برنامج بحثي مشترك قائم مدفوع الأجر والتجهيزات.. ويقول إن هناك من منسوبي ومنسوبات جامعة الملك سعود من يشاركون وسيشاركون في تجارب علمية متقدمة في هامبورج وبرلين بألمانيا.. وإن هذه محاولات جادة لتقوية البنية العلمية والمجتمع العلمي في المملكة، وإن هذه جهود جريئة من قبل علماء بارزين من جميع أنحاء العالم، وإنه يؤمن أن خبرته المثمرة تنطبق على كثيرين من العلماء الذين لهم مشاركات ونشاطات تعاونية مع المملكة.. وإن هذه المبادرات والجهود يجب أن تواجه بالتقدير، لأنها تساعد العالم العربي على البقاء. هذا كلام عالم لا أظنه يجامل د. العثمان أو جامعة الملك سعود والمملكة على حساب سمعته واسمه وعلمه..
والنظرة الثاقبة لهذا العالم أنه يعتبر جهود جامعة الملك سعود تمثل جهود المملكة ورؤيتها في الإنجاز والتطوير والبقاء.. كل ما نرجوه وندعو الله أن يتحقق ألا نحبط القادرين والمنجزين.