الغرفة الكبيرة نظيفة جدا، وتفوح منها رائحة المسك الجميلة، وتنتشر على أرضيتها السجاجيد العجمية الملونة المزخرفة الجميلة، وعلى محيط الغرفة توجد أماكن مرتفعة مغطاة بالقماش المشغول الملون النظيف، وترتكز على طول الحوائط أيضا المساند والمخدّات القطنية التي تستخدم للاتكاء، لمزيد من الراحة.
جو الغرفة -عموما- يسوده الهدوء والسكون، يتخلله ضوء الشمس المصفى الذي ينفذ خلال الروشان الخشبي الجميل، ويعكس داخل الغرفة مزيجا رائعا من الضوء والظل.
لاحظ الصبي -بطرف عينه- أمَّه وهي تمد يدها بشيء لامع، لتضع ذلك الشيء فوق الحافة الجانبية لساعة الحائط القديمة، التي كانت تصدر صوتا منتظما خلال حركة رقاص الساعة «البندول»، ولم تلحظ الأم أن الصبي أصبح يراقبها بفضول كبير، فضول الأطفال الذي لا حدود له.
انسلّت الأم من الغرفة بهدوء شديد، فقد كانت تظن أن ابنها العفريت الصغير يغط في نوم عميق، في وقت ما قبل الظهيرة، وما إن خلت الغرفة الكبيرة للصبي، حتى قادته غريزة الفضول إلى اكتشاف ما كانت أمه تحاول تخبئته في ذلك المكان. ظن في داخله أن أمه إنما كانت تحاول تخبئة ذلك الشيء اللامع منه هو بالذات، ولذلك خبّأته في مكان مرتفع يصعب عليه الوصول إليه، ولكن هيهات!.
أحضر الطفل بعض المخدات والمساند، ووضعها فوق بعضها، ثم صعد فوقها، وحاول جاهدا حتى استطاع الوصول إلى بغيته. كانت المفاجأة أنه وجد قطعة دائرية صغيرة لامعة، شعر أنها ولا بد أن تكون شيئا ثمينا «عملة نقدية» كان يسمعهم يطلقون عليها اسم جنيه ذهب.
عرف الصبي بغريزته أنه عثر على كنز ثمين، يستطيع أن يشترى به كثيرا من الحلوى التي يحبها.
أخذ الصبي ذلك الكنز الثمين «القطعة الذهبية» وخبأها في كفه الصغير، وانطلق خارجا من الغرفة، متسللا بخفة الأطفال قبل أن تراه أمه، أو تشعر به، أو تحس بغيابه.
خرج الطفل من منزل العائلة منطلقا إلى حانوت حلوى صغير يعرفه بالقرب من حارتهم، بجانب قهوة شهيرة أمام منزل أحد أقرباء عائلته، وكان صاحب الحانوت الصغير شابّا حضرميا في متوسط العمر، ويعرف الصبي وعائلته خلال بعض زياراته للحانوت مع شقيقه الأكبر، لشراء بعض الأغراض في مرات سابقة.
ذهب الصبي مباشرة إلى صاحب الحانوت، ودون أن يقول حرفا واحدا مدّ يده إليه بالجنيه الذهبي، مبديا رغبته في شراء بعض الحلوى التي أشار إليها بيده الصغيرة، اندهش صاحب الحانوت من وجود الجنيه الذهبي في يد الصبي الصغير، فهذا الجنيه في تلك الأيام كان بمثابة ثروة صغيرة لا يمكن لطفل مثل هذا الصغير الذي يقف أمامه امتلاكها أو الحصول عليها.
لم يتفوه صاحب الحانوت بكلمة، وإنما استجاب لطلبات الصبي الصغير وجمع له مقدارا جيدا من الحلوى المشكلة بمختلف الألوان، ووضعها في قرطاس ورقي وناولها الصبي، وما زالت الحيرة تتملكه من كيفية حصول هذا الصبي الغرّ على هذه الثروة الصغيرة.
طار الصبي عائدا إلى منزله فرحا وممنّيا نفسه بمتعة كبيرة في تناول الحلوى التي اشتراها بجهده الخاص و«عرق جبينه»، وملأ بها جيب ثوبه الصغير، وتسلل عائدا مرة أخرى إلى داخل منزلهم، حيث يحلو له اللعب ومراقبة الطريق خلال الزخارف الخشبية الجميلة التي يطلقون عليها اسم «الروشان»، وهي كلمة يبدو أنها مأخوذة من اللغة الفارسية.
وهنا، أخرج الصبي ما في جيوبه من حلوى، وبدأ في تناول بعضها إلى أن أصابه النعاس، واستغرق في نومة القيلولة في وقت ما قبل العصر.
ولحسن الحظ، جاءت الأم بحنانها المعتاد لتلقي نظرة على ابنها الصغير، وتتأكد من أنه مرتاح في نومته تلك في روشان مجلس الضيوف، وأنه لا يتعرض لأشعة الشمس المباشرة، خصوصا في الجو الحار الذي كان يسود المدينة تلك الأيام، عندها لاحظت الأم وجود ألوان مختلفة من الحلوى متناثرة إلى جانب الصبي، وقرطاس صغير من الورق يحوي عددا آخر من الحلوى التي تباع في الأسواق. بالطبع، ذهب فكر الأم إلى أن الابن لا بد وقد تسلل إل خارج المنزل، وقام بشراء هذه الحلوى من دكان قريب، ولكن بأي نقود؟! وكيف حصل على تلك النقود؟! ومتى خرج من المنزل هذا الشقي الصغير؟!
وبحاستها الطبيعية كأم وربة منزل، ذهبت مباشرة إلى حيث خبّأت الجنيه الذهب على طرف حافة ساعة الحائط القديمة المعلقة في قاعة الضيوف، التي يقضي الصبي جلّ وقته فيها، وبالطبع لم تجد الأم الجنيه في مكانه الذي تركته فيه، فتأكد لها -حينذاك- أن ابنها الشقي اكتشف مكان الجنيه الذهبي، وعرف بالسليقة قيمته الثمينة، وأنه سيمكّنه أن يشتري كثيرا من الحلوى التي يحبها، فتسلل خارجا ومعه الجنيه دون أن تلحظه، وذهب لشراء هذه الحلوى المتناثرة إلى جانبه من أحد الدكاكين في السوق القريب.
انتظرت الأم حتى استيقظ ابنها الصغير، فسألته بحنية ودبلوماسية: من أين أتيت بكل هذه الحلوى يا ولدي الحبيب؟ لا بد أنك اشتريتها اليوم من السوق، نظر الابن في عيني أمه ببراءة وصدق الأطفال، وأجابها: نعم، اشتريتها من دكان صغير في بداية السوق.
فعاودت الأم سؤال ابنها: ولا بد أنك اشتريت هذه الحلوى بالجنيه الذهب الذي وجدته على حافة ساعة الحائط هناك، أليس كذلك؟ فهزّ الصبي رأسه بالإيجاب. استمرت الأم في سؤاله: وهل تعرف كيف تصل إلى ذلك الدكان مرة أخرى؟ فأجابها أيضا: نعم.
* الحياة في مدينة لا توجد
* صدر عام 2017