ما تزال حدائق الربيع العربي بعيدة عن بعضها رغم القواسم المشتركة فيما بينها وتماثل الأسباب التي أينعت شتلاتها في الماضي، وتقابل الآمال المعقودة عليها في الحاضر.

وتكاد تكون حالة الانكفاء على الذات بين ثورات الربيع العربي في عداد القضايا المسكوت عنها مع توافر العوامل الكفيلة بتعزيز مستوى التضامن بين ساحاتها.

سوف يروي التاريخ في صفحاته المتهجمة أن النظم المستبدة التي أسقطتها عاصفة التغيير ظلت حتى النزع الأخير على قلب رجل واحد، تتبادل الخبرات القمعية ويمد كل منها الآخر بحاجته من المال والسلاح إلى جانب تكامل تعبيراتها المتناغمة في المحافل والمنظمات الدولية.

هل أقول إن قيم التضامن بين الطغاة تعادل منسوب التخاذل المشين بين ساحات التغيير؟ وما دلالة ذلك أو بالأحرى انعكاساته المحتملة على صعيد العلاقات المستقبلية بين شعوب وحكومات ربيعنا الانطوائي؟

إننا إزاء فاجعة تراجع تتهدد روح أمة قدرها أن تبدأ مسار توهجها على هذه الشاكلة فلا تذكر ولا تريد أن تتذكر في عقيدتها.. وضع الجسد الواحد إذا اشتكى منه جزء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ناهيك عن مقولات الأمة الواحدة والرسالة الخالدة.

ما الذي تغير في وجدان الأُمة وثقافتها والحال هذه؟.. ولماذا هي اليوم أقل استحضاراً لثوابت وجودها العضوي مما كانت عليه أحوالها ومواقفها ووشائجها قبل ستة عقود من الزمن؟

إن التأمل العابر في طبيعة المواقف المشتركة بين ثورات التحرر العربي وما كان يسودها من ترابط وثيق بلغ مستوى امتزاج الدم وتكامل القدرات يلقي بظلال من التوجس تجاه ثورات التغيير بما تبعثه من مؤشرات قطيعة، أو توحي به من نزعة أنانية نخشى أن تؤسس لمرحلة فصام بين الأجيال الثورية في هذه الدولة أو تلك، وفي مثل حال كهذه فما من مستفيد غير مشروعات التغييب، واستراتيجيا الكيان الأقوى على خارطة الشرق الأوسط الجديد وفقاً لتوصيفات الغرب ووصفات النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة..

أليس محيراً أن يكتشف الشباب العربي أول ساحات التغيير عبر وسائل وتقنيات الاتصال والتواصل وأن يكون (الإنترنت) في مقدمة الوسائل المشتركة لإشعال الفتيل.. وأن تتخاطر حاجات الجيل الربيعي الشاب إلى التغيير من خلال الرسائل القصيرة والمواقع الإلكترونية؛ فيما تعجز المشاهد الكارثية المتداولة يومياً على كل قنوات البث التلفازي وفي مختلف الوسائل المرئية والمسموعة والتبادلية عن تحريك مسيرة جماهيرية حاشدة احتجاجاً على حرب الإبادة التي ينتهجها بشار الأسد ضد الشعب السوري الشقيق..

أي ربيع لهذه الثورات وهي لا تنبض بمشاعر إنسانية ولو على سبيل تسجيل المواقف الانتهازية.. حتى الانتهازية ذاتها تكون احتياجاً اضطرارياً عندما تتوقف الضمائر عن التوجع ولا ينتابها إحساس بآلام الوخز.

ماذا يعني انتصار ثورة التغيير في اليمن أو الحديث عن انتقال السلطة إلى الشعب فيما لا تزال السفارة السورية في صنعاء ضمن ثوابت النظام السابق؟

وكيف تتحرك أم الثورات العربية ويسقط نظام مبارك وتنجز الثورة المصرية الكثير من أهدافها الحيوية على حين لا نرى مصر ترمي ثقلها كل ثقلها دفاعاً عن الشعب السوري الذي يقتله صمت ثورات الربيع العربي بمقدار ما تجهز على حياته أجهزة وشبيحة الأسد.

وليبيا.. شعب ليبيا. ثورة ليبيا. أحرارها وحرائرها الذين اكتووا بذات النمط من الطغاة أكل ما يمكن لهؤلاء الثوار وهم يجلسون على سدة الحكم مجرد تقديم 100 مليون دولار دعماً للشعب السوري الثائر؟!!

إن أشد الفواجع أثراً على الأحرار العرب أن تتحول عيونهم إلى ميادين عامة لصلب ضحايا حاكم متوحش مستأسد غادر.

أجدني ولا ضرورة لمثل بعينه في وضع يكتسي الذعر والتبلد تجاه مفارقات ربيعية تفوق التوقع.. هل يعقل أن تؤدي مخرجات التغيير إلى القيادات القومية لحزب البعث ضمن حكومات الربيع العربي من دون أن تبدر عنها كلمة تعاطف مع الشعب السوري أو تتحدث بكلمة تجاه أمين عام الحزب وقياداته الضالعة بجرائم الإبادة الجماعية..؟

على أن أحداً من ثوار اليمن أو تونس لم يطلب من هؤلاء تحديد موقف من الأسد وحزبه قبل اشتراكهم في تشكيل الحكومات المناهضة للاستبداد.. ولو كان رفاق الأسد في الأقطار العربية الثائرة وجدوا تشجيعاً على إعلان براءتهم من جرائمه ما ترددوا عن ذلك.. لتبقى وصمة التغاضي عن جرائم الحاكم باسم البعث بمثابة الوشم الأسود في وجه الربيع الذي انتظرناه كل أعمارنا.

شخصياً لا أدري إن كان على ثورات الربيع العربي التزام الحياد بين الضحية والجلاد وهل يصلح الأسد رهاناً مستقبلياً لبعض جيوب هذه الثورات.. وإذن فما هي أكاليل الغار التي ستطوق أعناق الشعوب غداً..؟

أثق أن المبادئ لا تقبل القسمة على نقيضين.. وأن تكون ثائراً تقدم التضحيات في سبيل إسقاط الحاكم المستبد في الداخل الوطني ثم لا يكون الأمر كذلك مع المستبد عربياً فهذا وحده يكفي لاعتبارك أجدى جينات الاستبداد التي تنمو بين أحشاء الثورة وفي كنفها..؟

وفي واقع الأمر ليس من ميزة تكسب الثورات عدالتها وترفد مشروعية الدفاع عن أهدافها وتحمل الآخرين على مساندتها أكثر من مصداقية التعامل مع المبدأ العام على شاكلة واحدة.

وما لم يكن الأمر كذلك فإن ما نقوم به لمقارعة الاستبداد حتى وإن أمكن تحقيق بعض المكاسب لا يعدو أن يكون سراباً تذروه الرياح.

لهذا نذكر ساحات الثوار من جيل الشباب في اليمن ومصر كما في ليبيا وتونس وفي مختلف العواصم العربية بواجباتها الوطنية والدينية والإنسانية تجاه التطورات الكارثية التي تشهدها سورية، إذ إنها ولا شك تضع الجميع أمام امتحان حتمي يختبر المشاعر قبل الضمائر وأخلاقيات الشعوب قبل مصالحها، ومصداقية الثورات ونبلها قبل شعاراتها المرفوعة ومحدداتها المحلية المعلومة. إنه امتحان انتماء ومعتقد وهوية.

وللشعوب التواقة إلى الحرية تقرير حكمها على الذات قبل أن يصير التخاذل لعنة مستدامة تتوارثها الأجيال على مرّ التاريخ.