وعندما استيقظ أهالي المدينة الصغيرة الناعسة على ساحل البحر فجر يوم على صوت دمدمة غريبة تصدر من اتجاه الساحل، كانت فجرية كئيبة مقبضة يميل ضوؤها إلى اللون الأصفر الرمادي، الهواء فيها راكد ورائحته سيئة، والطيور والعصافير جميعها تتجه بذعر إلى ناحية البحر، وهي تصدر أصواتا تشبه النعيق.
خرج الأهالي من بيوتهم وهم في حالة ذهول ودهشة، على وجوههم علامات الجزع الممزوج بالفضول والتساؤل. واتجهوا في جماعات إلى ساحل البحر، تحسبهم نياما وهم يمشون، عيونهم زائغة، وأفواههم مفتوحة، فهالهم ما رأوا.
لقد انحسر البحر واختفى إلى ما وراء خط الأفق الرمادي البعيد، وخلّف وراءه أرضاً طينية لزجة، زلقة وعفنة.
تبادل الأهالي النظرات الخائفة بينما الحيرة تملأ نفوسهم لما شاهدوه. أين ذهب البحر؟ لماذا انحسر هكذا فجأة وأخذ معه السمك والمرجان؟ أين نصطاد الآن؟ وكيف نعيش؟ ماذا حدث؟!
وبينما هم على حالتهم تلك من ذهول وتساؤل ووجل، خطرت لأحدهم فكرة شيطانية فأخذ ببعض الأخشاب الملقاة حولهم وثبتها بسرعة فوق جزء من الأرض اللزجة التي انحسر عنها البحر، ثم قام بربط حبال طويلة حوّلها محيطا بتلك الأرض وهو يصيح بصوت شرس: هذه الأرض أصبحت ملكي، لن أسمح لأحد بأن يضع قدمه عليها، وسوف أقيم عليها منزلا ومزرعة واستغلها كيفما شئت، فابتعدوا.
هنا أفاق الأهالي من وجومهم، وحل الجشع محل الرهبة. هذه فرصة يجب اغتنامها بسرعة قبل أن تضيع. ارتفعت الأصوات وتعالى الشجار والهرج والمرج. الكل يجري في كل اتجاه، بعضهم يصطدم بآخرين، وبعضهم يدعس بقدميه فوق أجساد الآخرين.
وبدأ كل واحد منهم يثبت الأخشاب في الأرض ويحيطها بحبال ليعلن منتصرا تملكه لتلك الأرض. أثبت الجشع أنه بالفعل داء معدٍ. وتحول أكثرهم من نيام وادعين ذاهلين إلى وحوش شرسة لها مخالف وأنياب، وأصوات تشبه الزئير.
وبينما هم على ذلك الحال من تدافع وضجيج ولغط إلى ما قبل غروب الشمس بقليل، منهمكين في جشعهم لاغتنام فرصة قد لا تعود، إذا بهدير رهيب يصل إلى أسماعهم قادما من وراء خط الأفق البعيد. ثم سمعوا صيحة صبي صغير يقول بهلع.. انظروا.. انظروا.. ومدوا أبصارهم إلى جهة الهدير فكادت قلوبهم تتوقف من الهلع والهول. تلك جبال من أمواج البحر العاتي تتجه إليهم مرة أخرى بسرعة جبارة، يعلوها الزبد الأبيض وكأنها علامات الحنق والغضب ترتد إليهم، أو كأنها أسواط من السخط تطاردهم.
ألقى الأهالي ما بأيديهم من أخشاب وحبال ونسوا ما كانوا بصدده، ولاذوا فزعين بالفرار إلى الشاطئ خوفا من أن تغمرهم تلك الأمواج العاتية التي تتجه نحوهم وكأنها مارد يصرخ. وقف الأهالي بعيدا عن الشاطئ ليشاهدوا في استسلام مياه البحر وهي تبتلع أخشابهم وحبالهم، وأحلامهم.
هدأ الحال أخيرا، وتوقف الشجار واللغط، واستدار الأهالي عائدين منكسة رؤوسهم في صمت وخشوع إلى منازلهم في مدينتهم الصغيرة الناعسة، بعد أن اكتشفوا أنهم كادوا يتماسكوا بالأيادي. وعاد الهدوء والصفاء مرة أخرى، والتسامح بين الجيران.
فقد.. عاد البحر.
* الحياة في مدينة لا توجد
* صدر عام 2017