إن المرض يحرم الإنسان حركته، المرض يشل التفكير ويستبدل الألم بالراحة، والقلق بالطمأنينة.. ولكن كيف تتصور إنسانا مسلوب الحرية؟ محروم الإرادة؟ إني أعترف أن هذا الشعور داخلني عندما صدر لي الأمر بالبقاء عند الدكان وعدم الذهاب إلى الحرم مثل غيري من الناس، ولكني تعلمت الصبر والتحمل، وبدت لي الدنيا مملوءة بالتناقضات، إن أضحكت في مكان أبكت في مكان آخر.
كان العمل مشتركا ومتنقلا بين الدكان والبيت، ويبدأ العمل مع صلاة الفجر يوميا إلى منتصف الليل. كنت أراقب وألاحظ ابنهم عبدالرزاق الذي يدرس في مدارس الفلاح وآخذ بعض كتبه وأقرؤها خلسة، وأسأل نفسي: ماذا بي؟ لماذا لا أكون مثله؟
لماذا لم تكن لي فرصة الدراسة مثله؟ فتاقت نفسي للتخلص من الوضع الذي أعيش فيه.
في بداية عام 1370 فكرت لو عدت إلى القرية للدراسة، ولكن الأجر الذي فرض لي أغراني بالاستمرار، فقد ارتفع إلى 550 ريالا سنويا.
كان لدى العم عباس خيرو جهاز تلفون في متجره، عندما يستخدمه يدير الجهاز بيده ويرفع السماعة إلى أذنه وينتظر، يسمع صوتا ثم يقول: آلو يا ترنك: أعطنا جدة، يضع السماعة، وينتظر دقائق وأحيانا ساعات وبعض الأحيان أياما حتى تأتي المكالمة من جدة، كنت مندهشا، ولكني لم أعطه كثيرا من اهتمام وعددته ترفا مفيدا، ولكن يمكن الاستغناء عنه.
الهروب الأول
زادت مهمات عملي بين الدكان والبيت، وبلغ الإرهاق مني مداه، فقررت الهروب إلى جدة حيث يعمل أخي علي، ولكن كيف الوصول إليه؟ قررت الاستحواذ على خمسة ريالات أرسلني بها أهل البيت إلى خائطة ملابس، توجهت إلى الحرم الشريف، حيث النور والناس والحياة أثناء الليل. وذهبت إلى بئر زمزم حيث شربت وارتويت وتوضأت وطفت بالبيت سبعا، وصليت خلف مقام إبراهيم، وسألت الله التوفيق، وطلبت منه المغفرة لما بدر مني من أخذ الخمسة ريالات، وقلت: «يا رب إنك تعلم وضعي، وتعلم ما أقاسيه، وتعلم أنهم يشتمونني ويضربونني، يا رب إنهم لا يرحمونني، يا رب افتح لي في هذه الدنيا». وذهبت في تفكير عميق، وعيناي لا تفارقان الكعبة، فيم أفكر؟ لا أدري. لماذا لا تفارق عيناي الكعبة؟ لا أدري.
رأيت في الليل رجالا ونساء، جماعات وفرادى يأتون إلى الكعبة يتعلقون بأستارها، يدعون، يبكون بكاء طويلا، دموعهم تنحدر على خدودهم، خاصة رجلا هندي الملامح. لم أستطع النوم لأن العسكر (عسكر الحرم) لا يتركون الناس ينامون، توضأت وصليت ركعتين ثم ذهبت وتعلقت بباب الكعبة أدعو الله وأطلب منه، وجدتني أشكو إلى الله الهوان والذّل في خدمة الناس، أحسست الدموع تنساب ساخنة على خدي، وتلوت بعض السور التي أحفظها ثم أحسست بالتعب يهد جسمي، فذهبت إلى حصوة باب السلام (كان الحرم مقسما إلى باحات عدة يفصل الباحة عن الأخرى ممر مرصوف بالرخام).
عند أذان الصبح بكيت وذهبت إلى زمزم للوضوء وصليت مع الناس، وبعدها نمت إلى أن أيقظتني حرارة الشمس، فذهبت إلى ميضأة باب السلام، ومنها ذهبت على غير قصد إلى السوق الصغير، فأبصرت سيارة نقل كبيرة وبجانبها رجل ينادي: جدة – جدة، سألته بكم توصلني إلى جدة فطلب مني ريالا، وصلنا جدة قبل الظهر في مكان يدعى باب مكة، وبدأت البحث عن أخي علي الذي يعمل موظفا حكوميا في جدة، فأنا لا أعرف جدة، ولا أدري أين مقر عمله، وأين يعيش.
يسر الله لي الأمر وسألت رجلا فدلني على الطريق، وبعد الظهر وصلت إلى مبنى كبير حيث يعمل أخي، وبرؤيته شعرت أنني ولدت من جديد، سلمته ثلاثة ريالات ونصف هي ما تبقى لدي من الخمسة ريالات، شكوت إليه، فطيب خاطري، واشترى لي ملابس جديدة، وقال لي: «لن تعود إليهم، سأدخلك أحسن مدرسة في جدة، ولا تهتم.. سأرسل لأمي كتابا (رسالة) أخبرها بما حصل، وسأدخلك المدرسة سوف تدرس وتنجح، بإذن الله». وأصررت على العودة للعمل لماذا؟ لا أدري. عندها قرر أخي السفر معي إلى مكة.. حيث اجتمع بالتاجر، ورد إليه الخمسة ريالات بعد عتاب بينهما، وقد اتفقا على أن أعمل في الدكان فقط.
* هروب إلى النجاح
* صدر عام 1431