«باطيح... باطيح» وضحك في وجهي وقال: «لا تخف»، ثم بدأ يرد يديّ إلى حجري بتمهل إلى أن اطمأننت.
قطعنا المسافة بين بطحان والطائف في ثلاثة أيام وليلتين، كما أذكر، كلما نزلنا وجلسنا أطيل النظر إلى السائق، كيف يستطيع هذا الرجل قيادة «السيارة»؟. كيف يستطيع تحريكها وهي بهذا الحجم الكبير؟ يداه ورجلاه وجسمه مثل الآخرين، لا بد أنه يمتلك قدرة لا يتمتع بها غيره.
أشرفنا على الطائف مع الأصيل، الشمس ترسل خيوطها الذهبية أحيانا على وجوهنا، وأحيانا تكون على يسارنا، دنا الليل وشعرت بالملل، سيارتنا تصعد تارة وتهبط تارة وتميل أحيانا، لدرجة أني أخاف أن تنقلب، بدا نور يتوهج من بعيد.. بعيد!! إنه ما يزال بعيدا، وذبت في ذاك النور، كان المنظر رهيبا، بعد طول انتظار دلفنا إلى الطائف، بيوت كثيرة.. على بعض الزوايا والحنايا والمواقع، يترفع مصباح صغير على شكل كرة، ما هذا؟
ويقطع ابن عمي علي تفكيري فيومئ بيده ويقول «تلك كهربة، الكهربة لا أحد يلمسها، إنها تنزع الروح. لا تلعب بالكهربة، بل لا تقترب منها»، رسخت تعليماته في عقلي حتى إني إلى اليوم لا أقترب من الكهرباء، ولا ألمس أي أداة كهربائية عندما تخرب أو تتعطل، بل أتركها حتى يأتي من يصلحها.
قضينا ليلتنا في أحد البيوت المعدة لاستقبال المسافرين، كانت ليلة طويلة بالنسبة لي، ظلامها دامس، أحلامها كوابيس، والنوم متقطع، وسمعت أذان الصبح يتردد عاليا وهو جميل. جميل جدا، من مسجد الصحابي الجليل عبدالله بن عباس، رضي الله عنه.
بعد شروق الشمس خرجنا إلى الشارع، وشاهدت مآذن مسجد ابن عباس وخلتها تلامس السماء. كانت جولة كل ما فيها مدهش وغريب وجديد. ذهبنا إلى مقهى تسمى «قهوة عطية» يقدمون فيها الشاي والقهوة، كل شيء بقيمة.. وللمرة الأولى في حياتي أرى أحدا يشتري أو يبيع الماء.
الطريق من الطائف إلى مكة ترابي، وعلى الطريق يقع وادي الزيما الذي يكثر فيه الموز ذو الرائحة الزكية والطعم اللذيذ، وتنحدر إليه المياه من الجبل.
أقبلنا على مكة المكرمة بعد المغرب. نرى نورا ولا نرى عمرانا ولا بشرا، وهل تدرون لماذا هذا الوقت الطويل؟ إنه بسبب وعورة الطريق وبطء حركة السيارة، رغم إحساسنا أنها تسير بسرعة فائقة، وبعد العشاء وصلنا إلى العاصمة المقدسة. عبرت بنا السيارة طرقات واسعة والمتاجر على جانبي الطريق.
بهرتني مكة بأضوائها وشوارعها ومتاجرها وناسها، ذهلت لرؤية ملابس الناس فهي مختلفة تماما، يلبس الناس ثيابا بيضاء ناصعة، ويتمنطقون بلفات قماش أغلبها مزركشة بالألوان، خاصة اللون الذهبي، وتكسو رؤوس بعضهم عمائم ذهبية، ولكن كثير منهم تغطي رؤوسهم كوفية «طاقية» هرمية بيضاء تغطي أعلى الرأس فقط، لفت نظري أن جميعهم يلبسون أحذية إلا ما ندر، وفجأة توقفت السيارة، وأمرونا بالنزول، وأسمع ابن عمي يقول لي هذا هو «المدعي»، وتجتاح جسمي رياح باردة أتوارى منها إلى جوار جدار، والناس يفرغون أمتعتهم وبضائعهم من السيارة، ولا أذكر أين وضع ابن عمي ورفاقه أمتعتهم؟ وعند من؟ ولكني أذكر أننا تركنا السيارة ومشينا في طرقات أضيق فأضيق، وقالي لي ابن عمي:
«مثل هذا الطريق الضيق يسمونه في مكة «زقاقا» والطريق الواسع يدعونه «شارعا» هل فهمت؟». وأجد نفسي في الظلام أهز رأسي بالإيجاب، وندخل في زقاق مظلم وفي آخره طرقنا بابا، خرج إلينا منه رجل سحنته توحي أنه من قريتنا، ورحب «وسهل»، وأفاض وزاد في الترحيب، وعرفت فيما بعد أنه واحد من جيراننا، إنه صالح ابن مسفر أبوعلامة -رحمه الله- وكان معه فيما أذكر ثلاثة رجال آخرين.
وضعوا لنا طعاما، أكلت منه والنوم يملأ عيني، وبعد الأكل وعند النوم كانت المفاجأة: أخذني ابن عمي في هدوء إلى ركن بعيد عن الغرفة الوحيدة التي يطبخون ويجلسون وينامون فيها هم وضيوفهم، وهي مفتوحة على ساحة مكشوفة، وقال لي هذا الباب الذي أمامك باب بيت الماء، وهو حيث تقضي حاجتك إذا رغبت!!، وبعض الناس في مكة يسمونه الطهارة، وبعضهم يسمونه الحمام، وفتح الباب وأشار إلى إبريق الماء الذي لا بد وأن أحرص على ملئه قبل أن أدخل الحمام، حملقت فيه متسائلا، وعرف ما أعني حيث قال لي: «هنا في مكة يقضون حاجتهم في بيت الماء، وكل منزل فيه بيت ماء، والمهم هو النظافة، لا تخرج إلا وأنت نظيف، وبيت الماء من بعد نظيف».
في الصباح استيقظت على أصواتهم عائدون من أداء صلاة الفجر في المسجد الحرام، انقبضت نفسي لأني وددت لو ذهبت معهم. بعد الإفطار خرجوا جميعا وعادوا بعد الظهر.
ذهبنا جميعا لصلاة العصر في الحرم الشريف، رواقات طويلة وساحة واسعة جدا، يتوسطها بناء عال تجلله كسوة سوداء. أخبرني ابن عمي أنها الكعبة، وبعد الصلاة طفنا سبعا حول الكعبة.
*هروب إلى النجاح
* صدر عام 1431