مع ذلك نجد الواقع مختلفا، فما أكثر ما نكتشف أن الكم يميل في ميزان التقديم أكثر من الكيف. هذه ظاهرة منتشرة في العالم الثالث لكن لا يخلو منها أي مجتمع، وإذا أمكننا أن نلتمس العذر للفئات غير المثقفة أو نصف المثقفة أو التي لم تحظ بنصيب طيب من الدراسة المنهجية المنتظمة، فإننا لا نعذر المثقف الذي حصل على مثل هذه الدراسة وتمرس في البحث العلمي الذي يتطلب درجة عالية من الدقة.
فما أكثر الكتب العلمية المليئة بالحشو، ألفها أساتذة جامعيون، وما أكثر الكتب ذات المؤلف الواحد التي تتكرر موضوعاتها مع اختلافات بسيطة في الترتيب والتبويب ليقال إن الأستاذ الفلاني له قائمة طويلة من الكتب والمقالات.
يبدأ هذا الاتجاه في تصوري من البحث الأول الذي حصل به هذا المؤلف على درجته العلمية، وهو أطروحة الماجستير أو الدكتوراه. هناك تتحدد هويته العلمية وأسلوبه في البحث. فلو نظرت في أطروحة هذا النوع من المؤلفين فإنك واجد الكم المعيار الذي تسير عليه، وأن نصف ما كتبه يمكن اختصاره في صفحات قليلة أو حتى الاستغناء عنه، وهو الجزء الذي يأتي عادة في بداية الأطروحة، حيث يحاول المؤلف أن يشرح خلفيات موضوعه ويربط بينها وبين الموضوع الرئيسي، ويكمن السبب أحيانا في حجم الموضوع، حيث يطلب من الباحث أن يعالج موضوعا يحتاج إلى مجلدات عدة لإيفائه حقه، فاختيار الموضوع وتحديده ثم تحديد طول الأطروحة من الأمور الأساسية التي يتدرب عليها الباحث في أطروحته، وبالتالي يظهر أثرها في حياته العلمية.
ففي كثير من الجامعات الغربية هناك مقولة أصبحت من المبادئ الأساسية في إعداد أطروحات الدراسات العليا هي: أن الباحث الذي لا يستطيع أن يثبت ما يريد أن يثبته في مائتي صفحة غير قادر على إثباته في خمسمائة، هذا بالطبع يفترض أن الباحث قد خطط لبحثه تخطيطا سليما ووضع أمامه قضية معينة محددة المعالم لمناقشتها والوصول بها إلى نتيجة. إنه يبدأ بطرح القضية وأهميتها وأسباب اختياره لها، وبعد مناقشتها في صلب الأطروحة يصل في النهاية إلى النتائج، بالرغم من أن هذا من أبجديات البحث العلمي، فإن كثيرا من تلك الكتب لا تلتزم بهذه الأبجديات، فلا تدري من أين يبدأ الكتاب وأين ينتهي، وما القضية وما النتائج التي وصل إليها البحث، وينطبق هذا القول على بعض المقالات التي تنشر في المجالات الأكاديمية.
من الخير للباحث «وللبحث العلمي» أن يكتفى بكتاب واحد أو بضعة كتب تحمل خلاصة تجاربه ونظرياته التي يمكن أن يصبح مرجعا أساسيا في مجال تخصصه، سواء أكان ذلك في عصر معين مثلا أو أديب أو شاعر أو في اتجاه نقدي معين، وبذلك يرتبط اسمه بذلك التخصص ارتباطا عضويا حتى عند تقادم الزمن وظهور أبحاث أو نظريات تعارض ما توصل إليه.
هناك أمثلة عدة لهذا النوع من الكتب في أدبنا العربي وفي الآداب الأخرى. لكن أحب أن أشير هنا إلى كتاب غربي يناقش جنسا أدبيا حديثا وهو بعنوان شعر التجربة: المونولوج الدرامي في التقاليد الأدبية الحديثة بقلم (روبرت لانجباوم)، أستاذ الأدب الإنجليزي في العصرين الفيكتوري والحديث بجامعة فيرجينيا، وقد صدر الكتاب عام 1957، وأصبح منذ ذلك التاريخ لا غنى عنه لكل من يتصدى للحديث عن هذا الجنس الأدبي.