الثورات ليست خيراً محضاً، والسكون ليس شراً محضاً، والعبرة في الفاعلية والروح الوطنية، فمن مات حتف أنفه وهو في انشغالات بناء السجون، يختلف جذرياً عمن قضى عمره في انشغالات بناء الجامعات والمعاهد

الإسلاميون اختطفوا الثورة! الإسلاميون اكتسحوا الانتخابات! ما هذا الربيع العربي المعمم؟! لنعد إلى الوراء، هناك حيث يقبع الرجل المريض بعمامته العثمانية، لتقوم على أنقاضه دويلات ما بعد سايكس بيكو، وتحت دعوى العروبة قامت الثورة العربية، وفي ثناياها الطموحات الشخصية، لزعامات وبينها لورنس بأعمدة حكمته السبعة، وليتطور الفكر الإمبريالي تطوراً طردياً، ومتناسبا مع تطور متطلباتنا، وطموحات طليعتنا الفكرية، فيتمدد الفكر الناصري حيناً، ويتمدد البعث العربي حيناً أخرى، لتحقيق متطلبات ذلك العصر وشيئاً من مزاجه العام، ولكن الخطوط الحمراء طيلة هذه الموجات بشعاراتها العروبية أو الإسلامية لن تقترب من الخط الأحمر إسرائيل، وإن اقتربت بحرب رمضان فقد أدركت أنها قد تزببت قبل أن تتحصرم، لتنضج البراغماتية العربية بشكلها الخداج في اتفاقية كامب ديفيد، وليتحول النضال العربي تهمة وتصبح دولة فلسطين يوتوبيا بعد أن كانت رمزاً للفداء والتضحية لكل العرب، ليتم تصفية القضية في عقول أصحابها تحت دعوى حرب شيطان الشيوعية الأحمر، رغم أن اليسار العربي دفع دم فدائييه لأجل مقدساته العربية، فكيف لم يتخل عن ترابه في فلسطين ما دام لا يعرف الصلاة؟!! ولكنها دوغمائية الانشقاق والنظرة الفئوية والتعصب الحزبي والتشظي، رغم ما فيها من رواد أفكار، فالرموز بقيت وفية لمبادئها حتى قضت نحبها، وإن اختلفت الرؤى في صوابها، ولكن صحة الأفكار في عالم السياسة ليست دليلا على صلاح تطبيقها، لتأتي أفغانستان بواقعها الذي لم تعقله العمائم حتى اللحظة، فالواقع الإسلامي طفل، ومعدة الطفل لا تطيق لحم الإبل، وفي المذهب ينقض الوضوء لمن أراد الطهارة، وقد أُتخِم الجسد الإسلامي بلحم الجزور المذبوح على الطريقة الإسلامية في المطبخ الأميركي! فصَلَّت التيارات الإسلامية في معاطن الإبل المنهي عنها، منذ قتل يعسوب القضية عبدالله عزام رحمة الله عليه، لتعيش التيارات الإسلامية هموم المنبت، فلا أرضاً قطعت، ولا ظهراً أبقت.
أما وقد أصر الإسلاميون أن يكرعوا من كأس السياسة مع الكارعين، فإياهم وتحذلقات الترابي في جهاد الأقليات، وإلا فالتقسيم ينتظرهم، ليكونوا مطايا سايكس بيكو هذا العصر/مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولن يفيدهم تقديم فتاوى ثم الاعتذار عنها، ففتاوى الدين ليست للاستهلاك السياسي، وقد استهلكت السياسة فتاواكم، وكنتم تظنون السياسة في عهدكم الميمون وبأحزابكم المنتصرة ستصبح مطية للدين، فكيف تنكرون ما نراه ونسمعه، وقد أصبح الدين مطية للسياسة، وتخريجات مقاصدكم تحولت من (مقاصد الشريعة العظيمة) إلى مقاصد السياسي وأغراضه المتلونة، لا نعيب على السياسي براغماتيته، ولكن نعيب عليكم فرحتكم بنصابكم الطائفي، لترسبوا في الفباء السياسة، فالنصاب الطائفي ليس دليل نجاح سياسي، بل هو محاصصة ساذجة لم تعتمد على النصاب السياسي لبرنامج انتخابي يرعى الاحتياج التنموي للمواطنين بمختلف طوائفهم وأعراقهم.
اتكأتم على الطائفية، والطائفية ليست محايدة كالبرنامج السياسي المحايد، وعليها فستضطرون في قابل الأيام إما إلى المواجهة الطائفية المقابلة لنفس المذهب (أشاعرة، سلفية، حنفية، صوفية) أو (سنّة وشيعة).... إلخ وثالثة الأثافي أن تصنعوا سوداناً آخر، أو لبنان الطوائف الهش، هل نسيتم المسيحيين العرب؟! هل نسيتم الأمازيغ؟ الأكراد، الاثني عشرية، الزيدية، الإسماعيلية، اليزيدية، الصابئة؟!، هل نسيتم كل أقلياتكم بتنوعاتها الدينية والعرقية، إن كان مشروعكم لا يتجاوز تخريجاتكم الفقهية لأحكام الذمي في الإسلام، فستضطرون لتخريجات لا تنتهي إلا لتبدأ، فهل سيصبح الذمي الفرنسي مواطنا مصرياً بمجرد دخوله الإسلام متجاهلين نظام الجنسية؟! كم هو طويل مشواركم إلى الدولة المدنية!! المهم ألا تنسوا العولمة التي جعلت العالم قرية واحدة لنرى من رؤساء العالم ما لم نكن نعرفه عن داخل بيوتهم، فما بالكم بخصائص شعوبهم وطوائفها.
لا تكونوا مطية للإمبريالية، التي نبغضها أشد مما تبغضونها، ونكره أن نكون خدماً لها تحت مسميات وعناوين لا تثبت سيادة ولا تنفيها، لكن العارفين يدركون تجلياتها الكمبرادورية، ومدى هشاشة من يرتضي حكماً يصنع المافيوزية تنهش في اقتصاد وطنه، وهو يدري أو لا يدري، والعار كل العار أن تكونوا في الثمانينات من القرن الماضي جنوده المخلصين لأجندته في أفغانستان، وتكونوا في الربيع العربي رجال سياسته المفضلين، فإن عذرناكم بالجهل في الأولى فكيف نعذركم في الثانية؟!.
نعلم أن أدواتنا كشعوب نامية ضعيفة، ولكن من أوهمنا أن ضعف الأدوات يعني ضعفاً في الإرادة؟ ألمانيا دُمِّرَت في الحرب العالمية تدميرا كاملاً، واليابان هزمت هزيمة أهلكت الحرث والنسل، والهند كانت تئن تحت وطأة الديموغرافيا وإثنياتها التي نغرق في شبرٍ منها، ولكن ما لم يُهزَم في دواخل هذه الشعوب هو إرادة التحرر الصادقة، والوعي بالتعددية، وحقوقها في شعار الديموقراطية بأنه (واجب الأغلبية وحق الأقلية) وليس كما توهمه البعض، ويروجه البعض الآخر بأنه (استبداد الأغلبية) لتخرج لنا أغلبية توهمت النصر ـ على شعبها!! ـ في ميدان السياسة بنصابها الطائفي، وليس بنصابها السياسي، فهنيئاً للإسلاميين نصابهم الطائفي، الذي سيسوقهم إن راهنوا عليه في أقل حالاته إلى حماسٍ أخرى أو إلى ما ذكرنا من سودانٍ شمالي وجنوبي، والموجع أن حسن الترابي ـ خريج أكسفورد والسوربون ـ هو من أكثر المستنيرين في الحركات الإسلامية، فكيف ولسان الحال يقول لنا إن الممسكين بزمام السياسة (الإسلامية) الآن هم أقل شأناً منه فكرياً وسياسياً، فهل من مدكر؟!
الثورات ليست خيراً محضاً، والسكون ليس شراً محضاً، والعبرة في الفاعلية والروح الوطنية، فمن مات حتف أنفه وهو في انشغالات بناء السجون، وسحل السجناء، والمنافحة خارجياً ضد التقارير المخزية لحقوق الإنسان، يختلف جذرياً عمن قضى عمره في انشغالات بناء الجامعات والمعاهد، والمنافحة داخلياً في سبيل مواطنة حقة لجميع أبناء وطنه، دون تمييز طائفي أو عرقي، والتاريخ يشهد رغم أنف ما يدونه المنتصر، ويتزلف به الوصوليون.