إذا كانت الحداثة قد جعلت الإطار البنيوي مكتفيا بذاته وقادرا على التفسير الوجودي؛ فإن حركة ما بعد الحداثة خلخلت كل قيمة ثابتة، وقضت على المركزية سواء كانت فكرية أو مدنية، وجعلت القوة هي المنطلق الحاكم الذي يعبر عن الحقيقة
كان الإنسان يظن أنه إذا استحكم على البعد المادي، ودخل في عالم الصناعة والحداثة، وتحققت له أسباب الرفاه والعيش أن يقترب أكثر فأكثر من السعادة والرفاه الإنساني، فغيرت الحداثة أنماط الإنسان المادية، طبيعة عيشه، ثقافته وتصوراته، من خلالها وفي أثنائها تم هدم قيمه ودينه، دك الثابت، تنوع الأنماط الحضارية، لم يعد أي شيء له قيمة ماضية، كل المعاني محصورة في ذاتها، لم يكن ثمة رابط بين الدال والمدلول.
لقد اكتشف الإنسان الذي كان هو محور الكون ومرتكزه، والذي كان يعد نفسه سيد الحضارة والكون بعد أن دخل في عالم المادية أنه بدأ يتحول إلى أن يكون شيئا مثل الأشياء، فأصبح الإنسان الذي كان روحا ومعنى وقيمة إلى الإنسان/ المادي، الذي يتعامل معه بناء على جسده المنفصل عن أي قيمة روحية، إنه بدأ يخطو إلى المجهول، إلى حداثة لا حدود لها، وتقدم لا نهاية له، لقد فقد الإنسان في خضم هذا المعنى من الحياة، فهو كاللاهث المتعب من المكد في طريق لا يرى له نهاية، ولأن المادية فصلت الإنسان عن الإيمان الذي كان يحدد للإنسان الغائية من الحياة، والهدف منها، وأن هناك ترقيا للإنسان إلى مالا نهاية فهو أصبح يعتـبر نفسه في طريق اللانهـاية، حينها فقد المعـنى، وتحول لمجرد ترس في ماكينة مادية تهوي به في وادٍ سحيق من العبثية والفوضوية في الحياة.
وإن كان هذا الأمر انعكس على الإنسان الفرد فهو كذلك انعكس على الفعل الحضاري المادي، فتوحشت الحضارة وأصبحت كالعطشان الذي يستطيع أن يكسر حدة عطشه، وقد أحدث هذا البعد المادي أن تحولت الحضارة إلى مفترسة لغيرها، ممتعة لذاتها حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين، ونهب ثرواتهم، والتحكم بمقدراتهم، وسفك دمائهم، لقد اكتشف الغربي أن الحضارة المادية والتقدم الصناعي والتكنولوجي أسهم في نشوب حربين عالميتين قضت على أكثر من سبعين مليونا من البشر وهم متقاربون في العرق والحضارة والديانة، فكيف ستصنع الحداثة إذن بمن هو مباعد عنهم جغرافيا وعرقا وديانة؟ إن الأمر تجلى بصورة بشعة في حركة الاستعمار الذي لا يزال الناس يعانون من مضاعفاته وآثاره بعد عشرات السنين.
إن تلك القيم التي بقيت للحضارة الحديثة انقلبت معادلتها بشكل عجيب، فبدلا من أن تكون محركا للضمير العالمي، وحاكمة على تصرفات الإنسان أصبحت هي الأخرى مركوبا لتحقيق الطموح المادي والاستعماري، وفرغت من معانيها الصحيحة السامية لتكون أداة بيد القوى، يوظفها حين تهب رياح مصالحه، ثم يقضي عليها ويحيدها حين تكون ضد مصالحه، وكلما ازداد الغرب بالفعل الاستهلاكي والإنتاجي للسلع والأدوات كلما حول الإنسان معه إلى أداة استهلاكية مادية خاوية.
إن هذه الحداثة الإشقائية لم تحقق الطموح الذي يريده البشر، بل كانت أداة لنزع معاني الإنسانية منه، لقد غيرت وجه الإنسان الذي يحاول خلق جنته في الأرض، وفردوسه القريب، ولذلك أتت ردة الفعل الما بعد الحداثوية لتنقض على السياق الفكري للعالم الحداثي بداية من أفلاطون وعالم المثل، ولأن الرؤية الحداثية والتفسير المادي العقلاني الغربي الحديث يرى أن العالم المادي يستطيع أن يفسر نفسه بنفسه دون الحاجة إلى مطلق متجاوز ينطلق من خلاله إلى فهم حركة الوجود، فإن حركة ما بعد الحداثة حاولت تفكيك الإنسان من خلال تفكيك كل مرجعياته والقضاء على كل قيمة دينية أو أخلاقية يركن إليها الإنسان بما في ذلك اللغة التواصلية، فإن كانت الحداثة قد جعلت الإطار البنيوي مكتفيا بذاته وقادراَ على التفسير الوجودي، فإن حركة ما بعد الحداثة خلخلت كل قيمة ثابتة، وقضت على المركزية سواء كانت فكرية أو مدنية، وبهذا غابت المرجعيات من حياة الإنسان، وجعلت القوة هي المنطلق الحاكم الذي يعبر عن الحقيقة فقط.
إن جزءا من انتشار الأفكار العدمية التي تنزع إلى البعد الإلحادي، وتقنين حالة العبثية في الكون يرجع إلى أفكار الحداثة وما بعدها، فإذا كانت حركة التاريخ الإنساني قد تشكلت من خلال الأديان والمعتقدات والقيم والعادات، فإن هذا يعني أن اكتشاف الإلحاد يعني نهاية التاريخ، ومن ثم نهاية القيمة الإنسانية والدخول في حالة عدمية، ووجود فوضوي لا يحمل أي قيمة، وهذه هي المحصلة النهاية التي سوف تودي بالإنسان إلى غياهب المجهول إذا لم يقرن حركة الحضارة بحركة الإيمان الذي يصحح له معنى الحياة، ويرسم للإنسان الطريق والغاية، الإيمان الذي يحقق الطمأنينة لمن يعيش في الصحراء أكثر من تحقيقه لمن يعيش في رفاهية المدن الفارهة الغارقة في جهالات الضلال والشك والإلحاد.