أي تغيير للنظام الإيراني باتجاه الاعتدال إنما يمثل ضربة لحلفائه وأذرعه في المنطقة، بما قد يعني أيضا تجريد حزب الله من أسباب وجوده وتغيير النهج الذي يتغير مرحليا وفقا للتحولات الحتمية والضرورية

لقد كان صراع القوى الكبرى على مواقع الاستحواذ والاحتواء والسيطرة بين القوتين الأكبر في العالم (الولايات المتحدة الأميركية) و(الاتحاد السوفيتي) بديلا عن الاستعمار العسكري الذي كانت القوى الأعظم الأسبق (بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا) تتوزع خريطة العالم وتقتسم فيها مواقع النفوذ.
وكان من سوء حظ بعض الدول العربية أن وقع قادتها العسكر في أحضان المعسكر الشرقي أو اليساري أو الاشتراكي أو الشيوعي والاصطفاف كما يحلو لهم تسميته في مواجهة الإمبريالية وقوى الاستكبار العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ودول غرب أوروبا.
وقد استمر التنازع بين حلفاء المعسكرين إلى أن أجهضت النظرية الماركسية أو الاشتراكية العلمية نفسها وعجزت عن تحقيق مبادئها المثالية التي تدعي العدالة وتقاسم الثروة والقضاء على طبقة البرجوازيين من ذوي الإقطاع وتوسيع قاعدة المنتفعين من خلال توزيع الثروة بين طبقات الكادحين من البروليتاريا، لكن ذلك كله لم يؤد إلا إلى تكدس الثروة في أيدي أعضاء الأحزاب الشيوعية التي كانت تحكم الناس بالحديد والعسف والتجسس فيما كانت القاعدة العريضة من الناس تفطر وتتغدى على الخطب والشعارات وتنام على وسائد الأحلام، وقد ظهر جليا أن الدول العربية التي انحازت للمعسكر السوفيتي قد عانت شعوبها من الفاقة وشح الموارد وضعف التنمية في بلدانهم، باعتبار أن هذه الشعوب المسكينة كانت تخدع بالشعارات والخطب التي كانت ترفع شعار تحرير الأراضي المحتلة فيما بات معلوما أن رقعة الاحتلال تزداد والتوسع يرتفع، ولهذا توالت النكسات والهزائم والنكبات، وبمقابل ذلك فإن الدول التي كانت توصم بالرجعية شهدت وما زالت تنمية مطردة وتقدما لافتا ووفرة ورفاها ينسحب على ساكني تلك الأوطان، وكان الرخاء إنما هو نتاج تسخير الثروة الموجودة في باطن الأرض لمن يقطنون فوقها، فيما كانت ثروات تلك الدول التي دارت في فلك المعسكر الشرقي إنما يتم تسخيرها لتكديس السلاح أو ترتيب المؤامرات والانقلابات والانشغال بالتدخل في شؤون الغير.
ومعلوم أن الثورة الإيرانية بقيادة الخميني لما قامت جاءت محملة بأجندة هدفها تصدير الثورة ما خلق حالة من الاهتزاز وغياب الاستقرار في المنطقة، واستطاعت إيران أن تزرع لنفسها خلايا من الحلفاء في أكثر من دولة عربية من خلال حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والهيمنة على مقاليد السلطة في العراق واحتواء النظام السوري وشق الصف الفلسطيني، وهذا ما قاد دول مجلس التعاون الخليجي أن توجس في نفسها خيفة من هذا الجار المتحفز الطامع الذي يبث القلاقل في الحج.. ويفجر في الخبر.. ويدعم زمرته في البحرين والعوامية وغيرها.
ومع كل ذلك فإن المؤشرات البارزة تشير إلى أن ربيع التغيير سيبسط يده إن عاجلا أو آجلا على إيران، إما بحكم التململ في الداخل أو بحكم العقوبات التي تفرض على نفطها وعلى بنكها المركزي وانعكاس ذلك على عملتها الهابطة، وانعكاس ذلك سلبا على مواردها واقتصادها، أو بحكم التوحد والاصطفاف غير المسبوق من كثير من الدول الغربية والدول العربية المؤثرة في مواجهة إيران، وسيقود هذا الضغط مع مرور الوقت إما إلى سقوط نظام الملالي ومجيء المعتدلين أو أن يختار نظام الملالي الاعتدال والانحياز للتصالح مع الجوار وإلغاء لغة التهويش والتهديد وتصدير الثورة. وجدير بالذكر أن أي تغيير للنظام الإيراني باتجاه الاعتدال إنما يمثل ضربة لحلفائه وأذرعه في المنطقة، بما قد يكون سببا في التخلي عن نهجه السابق وبما يعني أيضا تجريد حزب الله ومن على شاكلته في المنطقة من أسباب وجوده وتغيير النهج الذي يتغير مرحليا وفقا للتحولات الحتمية والضرورية.
ولهذا فإن التغيير الذي يوشك أن يتبلور في سورية سيغير كثيرا من تموضع بعض مراكز القوى والميلشيات في المنطقة، وسينعكس أثر ما يحدث في سورية على إيران وما قد يحدث في إيران سينعكس على حزب الله، وما سيحدث لحزب الله سينعكس على صورة وخطب زعيمه حسن نصر الله الذي اعترف مؤخرا وبزهو فاخر (إننا في حزب الله نتلقى الدعم المعنوي والسياسي والمادي بكل أشكاله من إيران منذ عام 1982) وفي معرض نفيه تهمة أن الحزب يتاجر – كما يذكر ويتداول - بالمخدرات وغسيل الأموال لتمويل أنشطته قال نصر الله: (إن الله قد أغنانا بإيران عن أي فلس في العالم حلالا كان أو حراما).
وعليه فإن أي حزب نشأ على هذا الدعم المادي والمعنوي منذ 30 عاما لا بد أن يكون تابعا ينفذ أجندة الداعم ممتنا أو غير ممتن، فالمسألة ليست اختيارية والدعم ليس عفويا أو عابرا وإنما يشكل ركيزة التأسيس والاستمرار لهذا الحزب من ألفه وحتى يائه.. لكن ومع ذلك فإن أمين هذا الحزب – عصمه الله – ينفي هذه التبعية عندما يقول: (إن إيران لا تملي علينا شيئا وحتى لو قامت إسرائيل بقصف المنشآت النووية الإيرانية فإن القيادة الإيرانية لن تطلب شيئا من حزب الله)!! لكنه يعود ليدلس ويحفظ خط الرجعة وهو يقول: (ونحن الذين علينا أن نجلس ونفكر ونقرر ماذا نفعل) يريد بهذا الكلام الادعاء والإيحاء أن القرار بيده وأن الحزب يأتمر بأمره، وهذه والله صياغة رديئة واعتذارية ممجوجة ليست متعودة من بلاغة نصر الله المعهودة وهو يعلم أن إيران تعتبر الحزب ذراعها الطويلة، وستطلب منها إيران في حال ارتعاش حصيرة الملالي أن تخربش.. وتقلق.. وتزعج، ولن يكون لنصر الله – كما يدعي- الخيار والجلوس والتفكير وتقرير ماذا يفعل، فهو مندوب يؤمر فيصغي السمع وهو حسير، وما عليه إلا أن يصدع بالأمر وينفذ، وسيجد نصر الله أن كثيرا من أكثر كلامه وخطبه السابقة عن عروبته ولبنانيته إنما كانت مجرد شعارات يتم تسويقها على العامة وتغذية مشاعرهم المتلهفة للكرامة والنصر، ويتم بها دغدغة مشاعر الناس المهزومين المحبطين المنكسرين في العالم العربي، وسيجد أخيرا أنه يقف وحيدا في العراء معزولا ومنبوذا من كل أولئك العرب الذين وقفوا إلى صفه وغرر بهم، وأن عليه إذا جاع وبات بلا عون ولا رفد أن يلحس كل كلامه السابق ويأكل لسانه في جوف حلقه... ويصمت.