كان الشجار اللفظي الذي تطور إلى عراك بالأيدي بين نائبين في البرلمان العراقي مؤخرا، أحدهما من القائمة العراقية التي يرأسها إياد علاوي، والآخر من ائتلاف دولة القانون الذي يرأسه نوري المالكي، خير انعكاس لما وصل إليه المشهد السياسي العراقي من توتر وحدة بين الطرفين السياسيين الأبرز. كان علاوي قد شن هجوما لاذعا قبل ذلك بأيام على رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي اتهمه فيه بأنه وصل إلى دفة الحُكم مدعوماً من طهران، وأن عناصر حزب الدعوة هم خفافيش الظلام، وحذَّر من محاولات المالكي لمنع الرأي الآخر والعودة إلى النهج الدكتاتوري، الأمر الذي رأى فيه أنصار المالكي تجاوزا على كل الخطوط الحمراء السياسية والأخلاقية. ومن طرفه، كان المالكي قد اتهم خصومه السياسيين بأنهم يتعمدون تعطيل مشاريع الدولة حتى يقال إن الحكومة لم تعمل ولم تنجز.
وقد نشرت مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في يونيو الحالي تقريرا كتبه دانيال قيسي ومارينا أوتاوي حول حالة التوتر السياسي في العراق في فترة حرجة قد تشهد سحب القوات الأميركية من العراق ما لم يتم التفاوض على التمديد لها. ورغم رغبة المالكي في استمرار الوجود الأميركي، إلا أنه يتردد في إعادة النظر في الاتفاقية مع الولايات المتحدة خوفا من تفكك الائتلاف الحاكم. وقد نظَّم مقتدى الصدر بالفعل مظاهرات ضد استمرار الوجود الأميركي، وهدد بالانسحاب من الحكومة في حال بقيت القوات الأميركية في العراق بعد نهاية العام.
الانقسامات السياسية
هناك حالة من التوتر الواضح بين الأحزاب التي شكلت حكومة الوحدة الوطنية وفقا لشروط تم وضع صيغتها النهائية في نوفمبر 2010، في اجتماع عُقِد في أربيل بوساطة مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان، وعُرِف بـاتفاقية أربيل. وتكتسب أهمية خاصة في هذا الصدد التوترات بين ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي والقائمة العراقية بزعامة إياد علاوي، وكذلك التوترات بين المالكي ومقتدى الصدر.
كانت اتفاقية أربيل حلا وسطا بين الأحزاب التي فازت بمقاعد في مجلس النواب في انتخابات مارس 2010، التي فاز بنتيجتها ائتلاف علاوي القائمة العراقية بـ91 مقعدا فيما فاز ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي بـ89 مقعدا.
العراقية والائتلاف الحاكم
منذ البداية، كان علاوي العضو الأكثر هامشية في التحالف، وكان المالكي ينظر إلى العراقية نفسها بعين الريبة. كانت جائزة الترضية التي أعطيت لعلاوي، والمتمثلة بإدارة المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية العليا عقيمة أساسا. إذ لم يتم التوصل إلى اتفاق واضح في أربيل حول صلاحيات المجلس ودوره. وانعكس تقلّص نفوذ القائمة العراقية وعلاوي في رفض المالكي قبول أي من مرشحي العراقية لمنصب وزير الدفاع. لا يزال المالكي وزير الدفاع في حكومته، كما استمر المالكي في السيطرة على وزارة الداخلية، التي كانت خُصّصت من الناحية النظرية للتحالف الوطني، وكانت تتطلب الحصول على موافقة شركائه في التحالف الوطني العراقي.
شجّعت خسارة العراقية لنفوذها عمليات الانشقاق عن الائتلاف. وبدأت الانشقاقات مؤخرا مع تشكيل كتلة العراقية البيضاء، التي شكلها ثمانية أعضاء في البرلمان ويرأسها حسن العلوي. أصبحت الكتلة تنتقد علاوي شخصيا والعراقية بشكل عام، حتى إنها بدأت جمع توقيعات في البرلمان لاستجواب وزير المالية محمد رافع العيساوي، وهو عضو في قائمة العراقية. وخسارة ثمانية مقاعد في البرلمان تحرم العراقية من الاستفادة من الميزة الضعيفة التي كانت تتمتع بها على ائتلاف دولة القانون، ما يجعل من المستحيل عليها أن تتطلع إلى تشكيل حكومة جديدة إذا ما انهارت الحكومة الحالية.
مقتدى الصدر والتحالف الوطني العراقي
في حين تمثّلت مشكلة كتلة العراقية الرئيسة في الحفاظ على نفوذها في حكومة الوحدة الوطنية، حيث إن المالكي يسعى جاهدا إلى الحفاظ على تماسك التحالف الوطني، وهي كتلة الأحزاب ذات الأغلبية الشيعية التي أتاحت له المطالبة بمنصب رئيس الوزراء. بالإضافة إلى ائتلاف دولة القانون، كان التيار الصدري أهم عنصر مكوّن في التحالف الوطني. فالصدريون الذين لهم 40 مقعدا في مجلس النواب، مهمّون بالنسبة إلى الأغلبية البرلمانية للمالكي. ولن يؤدي خروجهم من الائتلاف إلى تقويض حكومة الوحدة الوطنية وحسب، بل سيجعل تشكيل كتلة معارضة وقابلة للحياة أمرا ممكنا أيضا. ويواصل التيار الصدري اتباع سياسات مختلفة بشكل ملحوظ عن تلك التي يتبعها المالكي. وقد برزت الخلافات فيما يتعلّق بالشؤون الداخلية. عندما منح المالكي وزراءه مهلة مئة يوم، استجابةً للاحتجاجات الشعبية المتنامية، لتحقيق تقدّم في تنفيذ برامجهم أو مواجهة احتمال طردهم، جادل الصدر في أن الأشهر الستة ـ أي ضعف مهلة المئة يوم تقريباً ـ هي مهلة أكثر منطقية. علاوة على ذلك، جادل النواب الصدريون في أن التيار الصدري، بدلا عن المالكي، سيحكم على أداء الوزارات التي تم تخصيصها له. وعندما انتهت مهلة المئة يوم في 7 يونيو الحالي، تهيّأ المالكي لمعركة سياسية طويلة بعد أن حقّقت حكومته تقدّما ضئيلا، كما كان متوقَعا. فدعا الشعب العراقي إلى الحكم عليه بشكل عادل، وفي خطوة عكست حسا بالشفافية، أعلن أن اجتماعات الحكومة ستُبَث على شاشات التلفزيون مباشرة. كما تتجلى معارضة التيار الصدري للمالكي في نواح أخرى أيضا أهمها في مكافحة الفساد. كان التيار الصدري عنيفا في شجب الفساد، وانحاز إلى رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي في هذا الشأن.
رئيس الوزراء والبرلمان
يتصاعد التوتر بين رئيس الوزراء والبرلمان الذي يصر على أداء دور فعلي، كما يتبدّى توتر شخصي بين المالكي والنجيفي، وكلاهما طموح ويملك أجندته السياسية الخاصة. من الصعب الفصل بين التوترات المؤسساتية والشخصية، إلا أنهما يساهمان معا في تفاقم الوضع.
في اليوم الذي انتخبه البرلمان رئيسا له، أعلن أسامة النجيفي أنه لم يَعُد ممثلا لكتلة العراقية ـ التي فاز بمقعده على قائمتها الانتخابية ـ بل عضوا في البرلمان العراقي. وفي الأشهر التي تلت حاول النجيفي بالفعل الدفاع عن موقفه السياسي، وهو ما أدخله في صراع مع المالكي. كان أسامة النجيفي معروفا بأنه قومي عربي يفضّل وجود دولة مركزية وحدوية، ومعارضا للحكم الذاتي لكردستان. ومع ذلك، فقد تخلّى النجيفي عن الخطاب القومي العربي، إلى حدّ كبير، بعد أن أصبح رئيسا للمجلس، وركّز بدلا عن ذلك على تعظيم سلطة البرلمان وسلطته الشخصية. وقد نصّب النجيفي نفسه حاميا لسلطات وصلاحيات البرلمان التشريعية والرقابية، وطعن في تركيز السُلطة في يد الحكومة، وجعل نفسه وصيّا على الأخلاق العامة ضد موجة الفساد التي تجتاح البلاد. ونتيجة لذلك، فقد اصطدم مع المالكي، الذي يبدو أنه يعيد تعريف دور رئيس الوزراء ويغضب من القيود التي يسعى البرلمان إلى فرضها عليه. يحتاج رئيس الوزراء ومجلس الوزراء، وفق الدستور، إلى ثقة البرلمان، ويبدو أن النجيفي مصمم على أن يمارس البرلمان الصلاحيات التي يمنحها له الدستور. وفي حين كان حريصا على عدم التورط في معارك سياسية بين الأحزاب، فقد عمل النجيفي على إضعاف سلطات المالكي من خلال تعزيز سلطات البرلمان.
وقدمت الاحتجاجات التي اندلعت في العراق في أوائل فبراير للنجيفي فرصة سانحة لتأكيد الدور الرقابي للبرلمان. وتمثَّل أحد ردود المالكي على الاضطراب في الإعلان عن ضرورة أن يقدم الوزراء خطة حول كيفية تحسين الأداء، وأنهم سيمنحون مئة يوم لإجراء تغييرات وإحراز تقدّم في معالجة احتياجات الناس. وأشار النجيفي بسرعة إلى أن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، وبالتالي فإن البرلمان، بدلا عن رئيس الوزراء، سيحكم على ما إذا كان الوزراء قد أحرزوا تقدما كافيا. وأعلن النجيفي أن البرلمان سيعتبر أي وزير لم يكمل نسبة 75? من برنامجه في الموعد المحدد مسؤولا، مهددا بإمكان إجراء تصويت بحجب الثقة. كما طالب المالكي بتقديم برنامج شامل للبرلمان، يمكن من خلاله الحُكم عليه شخصيا. لكن المالكي أصر على أنه هو من سيحكم على أداء الوزراء، وأضاف: أنه في نهاية المئة يوم سوف يحكم أيضا على أداء البرلمان، ويدعو إلى انتخابات مبكرة إذا لزم الأمر، على الرغم من أن الدستور لا يمنحه سلطة القيام بذلك.
المواجهة الأخطر حتى الآن بشأن صلاحيات كل من مجلس النواب ورئيس الوزراء أثيرت بسبب تصويت في البرلمان يوم 18 أبريل على إلغاء بند في القانون الجنائي يمنح الوزراء سلطة عرقلة تحقيقات الفساد ضد العاملين في الوزارات التابعة لهم. واعتبر نشطاء مكافحة الفساد التصويت انتصارا كبيرا لهم، ولكنه واجه معارضة المالكي الذي بعث برسالة إلى الرئيس العراقي جلال طالباني طلب إليه فيها اتخاذ ما يلزم من التدابير الدستورية لنقض قرار البرلمان. وفي سعيه إلى فرض رقابة برلمانية على رئيس الوزراء ومجلس الوزراء والدفاع عن حق البرلمان في التصويت على مشاريع القوانين الخاصة به، لم ينتهك النجيفي روح الدستور على العموم، على الرغم من أنه تجاوز المعايير المقبولة في بعض الحالات. كان هذا الدور الجديد مفاجئا بشكل خاص نظرا إلى ماضيه كمعارض للفيدرالية واللامركزية.
هل بلغت الفيدرالية سِنّ الرشد؟
منذ تشكيل الحكومة الجديدة، شهدت العلاقة بين الحكومة المركزية والمحافظات تغييرا كبيرا. فلا بد من تعديل الصورة القديمة للعراق كبلد، حيث كان الأكراد مصرِّين على استقلالهم الذاتي، والسُنَّة ملتزمين بدولة مركزية، والشيعة ملتزمين أيضا بدولة مركزية بعد أن داعبوا لفترة وجيزة فكرة إقامة إقليم شيعي مستقل.
في عامي 2005 و2006، تمثّلت إحدى المظالم السُنّية الرئيسة في أن الأكراد، وبالتواطؤ مع بعض الأحزاب الشيعية على الأقل، فرضوا اعتماد دستور يدعو إلى إقامة حكومة مركزية ضعيفة. كانت الأقاليم تمتلك ـ في الواقع إقليم كردستان فقط في ذلك الوقت ـ سلطات واسعة، أما المحافظات فلم تكن تمتلكها، ولكن كان في وسعها أن تختار تحويل نفسها، إما بشكل فردي أو بالانضمام إلى محافظات أخرى، إلى أقاليم بالدرجة نفسها من الحُكم الذاتي الذي يتمتع به إقليم كردستان.
مع مرور الوقت تغيَّرت المواقف بشكل كبير. أولا، تراجعت فكرة إنشاء إقليم جنوبي شيعي بسرعة بعد أن اكتسب الشيعة نفوذا في قلب الحكومة. ثانيا، أصبح السُنَّة في العراق قلقين أكثر فأكثر من الحكومة المركزية، حيث عزز المالكي سُلطته. وأخيرا، تسبب إقرار قانون الأقاليم لعام 2008 ـ الذي منح رسميا المزيد من السُلطة للمحافظات، وإن لم يُطبَّق بالكامل بعد ـ في أن يعيد بعض حكام الأقاليم وأعضاء مجالس المحافظات النظر في مزايا التحول إلى إقليم. فالإقليم سيكون أكثر استقلالية في عملية صنع القرارات، ويمتلك قدرا أكبر من السيطرة على العائدات الخاصة به، وسيكون أقل اعتمادا على أداء الحكومة المركزية في حل مشاكله. وبرز طلب توضيح السُلطة الخاصة بكل من السُلطات المركزية والمحلية في الواقع باعتباره المطلب الرئيس للمشاركين في مؤتمر عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقاليم استضافه البرلمان العراقي في 30 مارس.
لمحة من الديموقراطية أم أزمة جديدة؟
التصدعات في حكومة الوحدة الوطنية واضحة تماما، حيث إن احتمال أن تؤدي خطوة خاطئة من أحد الأطراف إلى انهيار اتفاقية أربيل هو احتمال حقيقي جدا.
لكن هناك أيضا جانب أكثر إيجابية للعبة السياسية المكثَّفة: فقد حالت حتى الآن، دون ظهور نظام استبدادي جديد على الرغم من النزعات غير الديموقراطية للساسة الكبار. وإذا ما نظرنا إليهم بشكل فردي، فإننا نجد أن المالكي والنجيفي ومقتدى الصدر أظهروا أنهم على استعداد لتجاهل الدستور والنظام القانوني عندما يكون القيام بذلك في مصلحتهم، ولكنهم يسارعون أيضا إلى الاستفادة من النظام الديموقراطي عندما يكون القيام بذلك في مصلحتهم. وقد نجحوا معا في كبح النزعات غير الديموقراطية لبعضهم البعض.
ويتكرر النمط نفسه في العلاقات بين المحافظات والحكومة المركزية. فالمحافظون وأعضاء مجالس المحافظات الذين يدافعون عن صلاحيات المحافظات ويسعون إلى تعزيزها ليسوا ديموقراطيين بالضرورة، وهم لا يؤمنون بالضرورة بالفيدرالية كمبدأ. ومع ذلك، فعندما يرون فائدة لأنفسهم في نظام أكثر لا مركزية ـ أو أنهم عرضة لخطر نظام لا مركزي ـ فإنهم مستعدون للتمسك به.
الالتزام الضعيف بالديموقراطية من جانب الساسة العراقيين ليس مستغربا. فهم جميعا ناجون من نظام سياسي مستبد في عهد صدام حسين، ومن الحرب الأهلية الأخيرة. وقد نالوا جميعا وظائفهم في ظل ظروف لم يكن التقيُّد الصارم بقواعد الديموقراطية يسمح بالبقاء. تغيَّرت القواعد الآن، حيث يتعلّم الساسة العراقيون كيفية الاستفادة منها، على الأقل عندما يناسبهم القيام بذلك. ويمثِّل هذا الالتزام المتقطّع، على الأقل، بالديموقراطية بارقة أمل، إلا أنه يبقى أن نرى ما إذا كانت الضوابط المتبادلة تؤذن ببداية نظام ديموقراطي أم تكون طريقا إلى أزمة حكومية كبيرة.