لم يكن غريباً أن تصنع السفارة الإسرائيلية أذناً من طين وأخرى من عجين تجاه التحقيقات التي تجريها نيابة أمن الدولة العليا في مصر حالياً مع الجاسوس إيلان تشايم جرابيل، الذي أشارت تحقيقات السلطات المصرية إلى كونه ضابطاً في الموساد الإسرائيلي. ولم يكن أكثر غرابة أن تخرج علينا صحيفة هآرتس العبرية بتحقيق تزعم فيه أن جرابيل مجرد شاب إسرائيلي يحب المغامرات وأنه لا يعمل في الموساد، فيما نقلت الصحيفة عن والده أنه حزين لموقف القاهرة واعتقالها ابنه، زاعماً أن هذه الحادثة تشبه ما يردده المصريون عن محاولة الإسرائيليين سرقة الأهرامات، وأنه لا يوجد دليل واحد يدين ابنه أو يؤكد تورطه في فضيحة التجسس الأخيرة.
وأكدت مصادر أمنية مصرية أن إسرائيل اعتادت طوال تاريخها على التضحية بعملائها وخيانة جواسيسها وعدم الاعتراف بتورطها في قضايا التجسس على مصر، حفاظاً على أكذوبة الموساد الذي لا يقهر، وهو ما حدث في بدايات خمسينيات القرن الماضي من خلال الأعمال التخريبية التي نفذتها شبكة من اليهود المصريين والذين تولى تدريبهم ضابط المخابرات الإسرائيلي جون دارلنج. ورسخت تلك العملية والتي عرفت بفضيحة لافون، نسبة إلى بنحاس لافون وزير الدفاع الإسرائيلي الذي كان يتولى الإشراف على تلك العملية، مبدأ خيانة إسرائيل لعملائها، حيث إن القاضي العسكري محمد فؤاد الدجوي الذي ترأس محاكمة أفراد الشبكة تم تعيينه بعد عامين في منصب الحاكم العسكري بقطاع غزة وحدث أن سقط في الأسر الإسرائيلي خلال حرب 1956 وتوقع الجميع أن يحدث تبادل للأسرى يقضي بالإفراج عن الدجوي مقابل الإفراج عن أفراد الشبكة إلا أن القيادات العسكرية في إسرائيل كانت تنفي أن أفراد الشبكة قد عملوا بتكليف من إسرائيل، ولذلك لم يتطرق موشيه ديان(وزير الدفاع الإسرائيلي) إلى الحديث عنهم خلال المناقشات التي تمت حول تبادل الأسرى، ولم يتم الإفراج عن أفراد هذه الشبكة إلا في أعقاب حرب 67 بعد صفقة تبادلية مع الأسرى المصريين.
وهناك حادثة أخرى تؤكد على اتباع إسرائيل مبدأ خيانة عملائها والتضحية بجواسيسها. ففي يناير من عام 1965 كشف السوريون إيلي كوهين عن طريق جهاز تتبع متقدم حصلت عليه سورية من الاتحاد السوفيتي يكشف مواقع البث الإذاعي، وفي ذلك اليوم توقف البث الإذاعي في أنحاء دمشق ليقع إيلي كوهين في الفخ بعد أن تم إلقاء القبض عليه وهو يرسل المعلومات لإسرائيل، وكالعادة تعامل الموساد الإسرائيلي مع هذا العميل بإهمال شديد وتركه يواجه مصيره وحده حتى تم إعدامه، في ميدان عام في الوقت الذي كان الموساد يطالب فيه أفراد أسرته بالتفاؤل زاعمين أن موقفه جيد، وهو ما دفع أحد الكتاب الإسرائيليين لأن ينشر كتابا حول موضوع خيانة الموساد لإيلي كوهين أطلق عليه وحيد دمشق.
نفس سياسة خيانة عملائها، اتبعتها إسرائيل مع العميل جوناثان بولارد، الذي ظلت إسرائيل تتنصل لسنوات من مسؤولية الاعتراف بتعاونه مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية، بل إن الحكومة الإسرائيلية أعادت للولايات المتحدة الوثائق التي حصل عليها من داخل شعبة المخابرات التابعة للأسطول الأميركي. وجوناثان بولارد هو مواطن أميركي يهودي عمل في مركز التحذير المضاد للإرهاب التابع لقسم قراءة وتحليل التهديدات في جهاز التحقيق التابع للأسطول الأميركي. وخلال عمله الجديد وقعت تحت يديه معلومات خطيرة وسرية تخص إسرائيل، ولذلك شرع في نقل هذه المعلومات إلى إسرائيل مباشرة، وفي يوم 21 نوفمبر من عام 1985 هاجم عملاء الاستخبارات الأميركية منزله، وعندما شاهدهم بولارد يقتربون من منزله لاذ بالفرار هو وزوجته نحو السفارة الإسرائيلية في واشنطن بناء علي التعليمات الإسرائيلية، وعندما وصلا إلى السفارة، رفض الوزير المفوض داخل السفارة الإسرائيلية إلياكيم روبنشتاين السماح لهما بالدخول وتم إلقاء القبض عليهما أمام السفارة.
لم تتوقف التصرفات الإسرائيلية عند هذا الحد، بل إن إسرائيل أعادت للولايات المتحدة الوثائق التي حصلت عليها لتؤكد بذلك تهمة التجسس على بولارد الذي لم يجد مجالا للإنكار واعترف بتهمة التجسس لحساب إسرائيل ليتم الحكم عليه بالسجن لمدة 30 عاماً. والغريب في الأمر أنه عندما تم إلقاء القبض عليه لم تعترف إسرائيل بأنه عميل لها وانتظرت بعد 13 عاما قضاها في السجن في عام 1998 لتعلن أن بولارد عميل لإسرائيل وقامت بمنحه الجنسية الإسرائيلية. والمثير أيضاً أن إسرائيل لم تفعل ذلك طواعية من تلقاء ذاتها، بل فعلت ذلك بعدما تقدم بولارد لمحكمة العدل العليا مطالبا بالحصول على الجنسية والاعتراف به رغم المعارضة الشديدة التي مارستها الحكومة الإسرائيلية ضد اتخاذ هذا القرار.
ومن جهته، أكد اللواء سامح سيف اليزل، الخبير الأمني، أن الجاسوس الإسرائيلي في مصر معترف بجواز السفر الذي يثبت هويته الإسرائيلية، موضحا أن ازدواج جنسيته تقليد بدأت تل أبيب تلجأ إليه لتوريط دول أوروبية معها.
وأوضح اليزل أن جواز السفر الإسرائيلي لا يمكن تزويره، وهو أمر متعارف عليه في العالم، مؤكدا أن الجاسوس كان يعمل لصالح جهاز أمني إسرائيلي وليس لأية دولة أخرى.