امتدت هذه الأدبيات المتناثرة حول قضية حمزة كشغري إلى آفاق مخجلة لم يعد لها من علاقة بالقضية الأصل. عشرات المقالات ومثلها من الحوارات التلفزيونية التي اتخذت من قضيته مدخلاً إلى تصفية حسابات بين المدارس المختلفة. دخلت قضيته إلى منعطف الوحل ليصبح سؤال التشريح: هل هي عصبيات فكر أم جنس وعِرْق؟ بلغت الذروة في الحوار التلفزيوني ما بين الثلاثي الكريم محمد الحضيف، وأحمد عدنان، وعبدالله حميد الدين. ومع بالغ الأسف، يحضر سؤال – الجنسية – وأبغض من هذا تحضر حوارات الجاهلية عن العرق وعن المنبت، وهذه دلالات فقر معرفي وشواهد عصبية منتنة. ومن يقرأ مقال الزميل عبدالعزيز قاسم، أول من أمس هنا سيقتنع حتماً أن المحاكمة الثقافية للقضية قد تعدت حدود القضية والقصة بمراحل، وقد كفانا الزميل توضيح هذه المسألة.
والسؤال الأخطر في مثل هذا التصعيد والتجييش: هل سيجد الكشغري في مثل هذا الاحتشاد والتأليب محاكمة عادلة تصم آذانها عن كل الآراء الغوغائية حول القضية؟ هل نحن فعلاً نثق بالقضاء الشرعي ثم نسكت لنعطي القضاء فرصته وفق رأي الشريعة بدلاً من أحكامنا المسبقة الجاهزة؟ هل يستطيع قاض ما، في مثل هذه الغوغائية من التأليب أن يعطي رأيه المستقل إذا ما رأى، ووفق أحكام الشرع الحنيف أن درء الحدود بالشبهات وأن هناك فسحة ما بين أحكام التوبة وأحكام الردة؟ وأرجو ألا يزايد أحد على رأيي في القضية، لأنني كتبته ولمرتين، واليوم وللمرة الثالثة، أقول إن مظهرنا الحضاري لا تخدشه إلا هذه الآراء التي نصبت نفسها قاضياً وحكماً ومدعياً قبل أن تبدأ قصة المتهم مع القضاء ومع أحكام الشريعة. مظهرنا الحضاري، إذا كنا نحترم الأحكام القضائية بشرع الله عز وجل، يفرض علينا وقتاً من الانتظار حتى يمثل المتهم أمام القاضي، وحتى نستمع لدفاعه عن قضيته، وحتى نسمع المرافعة العادلة، وحتى تكتمل أركان التهمة أو البراءة بما تقتضيه ذات الأحكام الشرعية التي نصبنا فيها أنفسنا بديلاً عنها حتى قبل أن يبدأ تحرير الورقة الأولى في المسار الشرعي لهذه القضية. هذه الأدبيات الهائلة من الخطب العصماء والحوارات الرخيصة والمقالات المتجهة إلى العرق والعصبية إنما تنبئ عن صورة غير حضارية. حتى الشاعر الشعبي دخل في القضية بقصيدة نصفها من الازدراء الفوقي البغيض، ونصفها التالي ينصب نفسه قاضياً شرعياً. وللأسف مرة أخرى بآلاف المستمعين الذين ينصتون بشوق إلى هذه المهازل الفكرية. أبسط حقوق القضاء أن نترك له الوقت. وأبسط حقوق المتهم أن نعطيه الفرصة. وأبسط حقوق المجتمع بأكمله أن نعطيه وجهه الحضاري في التعامل مع القصص المختلفة.