استقلالية مؤسسة الوحدة الخليجية، تتطلب من أفرادها العمل بصفتهم مواطنين خليجيين، وليس بصفة تبعيتهم للقطر الذي يحملون جنسيته. ذلك كان الحال، في المؤسسات الاتحادية التي نجحت في تجاربها، وذلك هو ما نرجو تحقيقه
خلال القمة الخليجية التي عقدت مؤخرا، طرحت مبادرة سعودية للانتقال بمجلس التعاون الخليجي إلى حالة أعلى، ترقى إلى شكل من أشكال الدولة الاتحادية. وبحسب ما هو متوافر من معلومات، فإن المملكة وبقية الدول الأعضاء في مجلس التعاون، يعكفون وبشكل حثيث على دراسة المشروع السعودي، ومحاولة الخروج بصيغة اتحادية تقابل طموحات وتطلعات أبناء الخليج.
لقد سكن حلم تشكيل كيان سياسي موحد، يضم جميع دول مجلس التعاون، في الوجدان الجمعي لمواطني الخليج. فهذه الوحدة هي مركب النجاة لنا جميعا، في وجه الأطماع والتدخلات الخارجية بمختلف أشكالها. وكانت على الدوام مطلبا استراتيجيا، غير محكوم بحالة ظرفية. فهي سبيلنا إلى المنعة والقوة، في وضع عالمي ليس فيه مكان للضعفاء والمتخاذلين، وهي أيضا سبيلنا لحماية ثرواتنا الوطنية، وهي وحدها القادرة على إعادة تشكيل التركيبة الديموغرافية للخليج، بما يحفظ هويته، وانتماءه العربي الإسلامي.
إن أهمية هذا المشروع، ودوره الأساسي في صياغة مستقبل هذه المنطقة، تجعل من الجوهري والملح، الانتقال من مناقشته بين الرسميين في الأروقة الخاصة، إلى جعله شأنا عاما، يتناوله المثقفون والمهتمون بالشأن العام، بما يسهم في تعزيزه، وجعله معبرا بشكل حقيقي عن احتياجات وتطلعات الناس.
ومن البديهي، أن يكون المثقفون الخليجيون والمهتمون بالشأن العام، في مقدمة المهتمين بموضوع الوحدة الخليجية. سيكون مجديا أن تفتح شؤونها أمام الحوارات وتعقد الندوات لإثرائها. ويتوقع أن تكون سقوف هذه الحوارات والندوات عالية جدا، بما يفتح أمام المعنيين في القيادات الخليجية، بوابات وفرصا جديدة، ربما لم تكن في حسبانهم، للسير في مشروع الوحدة، والدفع به للأمام.
ولعل الخطوة الأولى، في هذا السياق، هي مراجعة القوانين واللوائح السائدة في دول مجلس التعاون، لتبيئتها، والبناء عليها، والانطلاق منها، لصياغة لوائح وأنظمة الدولة الاتحادية. إن كون هذه القوانين واللوائح مختلفة، وأحيانا غير متجانسة، يتيح اختيار الأفضل من بينها، بما يسهم في تشكيل دولة خليجية مدنية، يعتز مواطنوها ويفتخرون بالانتماء إليها.
لقد أثبتت تجارب العمل الوحدوي والتضامني العربي المريرة طيلة العقود المنصرمة، أن أحد أسباب فشل تلك التجارب، هو عدم استقلالية مؤسساتها، وخضوع القرارات فيها لأهواء القادة ونزعاتهم الشخصية. يعلن عن المشاريع الاتحادية، وتمر البلدان المشاركة فيها بكرنفالات فرح، ثم سرعان ما تنتكس تلك التجارب، لتمر بعدها العلاقات بين البلدان التي يفترض أن يشملها الاتحاد، بنزاعات وحروب باردة.
كما أكد ذلك، نجاح التجارب الاتحادية والوحدوية في أوروبا التي انتقلت حثيثا من مشروع السوق الأوروبية المشتركة إلى الوحدة الأوروبية. وفي ذات السياق، يجدر التنبه إلى التجارب الاتحادية في شرق آسيا، وأمريكا الشمالية، فهذه الدول لم تتمكن من تحقيق فيدرالياتها إلا من خلال مؤسسات مستقلة، حصلت على التفويض الكامل بإنجاز المهمات المنوطة بها. وعلى هذا الأساس، فإن من المنطقي التطلع إلى تمتع المؤسسات الخليجية التي ستضطلع بتنفيذ مشروع الوحدة باستقلال نسبي في اتخاذ القرارات، بما يسهم في التسريع بتحقيق الهدف، على أسس صحيحة.
لقد تمكنت مؤسسات الوحدة الأوروبية من تحقيق استقلالها المالي، إضافة لاستقلالها في اتخاذ القرارات المتعلقة بمسؤولياتها. وتم الفصل في العلاقة الاتحادية بين السياسي والاقتصادي. إن تحقيق الاستقلال الاقتصادي لمؤسسات الوحدة الخليجية، يقتضي إسهام كل مواطن خليجي في تمويلها، عبر ضريبة يتفق عليها لتمويل ميزانية الدولة الاتحادية المرتقبة.
إن استقلالية مؤسسة الوحدة الخليجية، تتطلب من أفرادها العمل بصفتهم مواطنين خليجيين، وليس بصفة تبعيتهم للقطر الذي يحملون جنسيته. ذلك كان الحال، في المؤسسات الاتحادية التي نجحت في تجاربها، وذلك هو ما نرجو تحقيقه. وتشمل الاستقلالية هذه موضوع مرتبات العاملين فيها، حيث يفترض تقاضيها من المؤسسة الاتحادية وليس من حكومة البلد الأصل.
تلك أمور تبدو شكلية، ولكنها جوهرية. فقد فشلت فيما مضى، جامعة الدول العربية، والمؤسسات الاتحادية العربية الأخرى، لأن مهمتها شكلية بالأساس، وكان أداؤها انعكاسا حقيقيا لحالة الفشل والعجز. وحتى مجلس التعاون الخليجي ذاته، الذي مر على تأسيسه أكثر من ثلاثة عقود، كان من الممكن أن يكون أكثر فاعلية، لو كانت مؤسساته أكثر استقلالية. وللأسف فإن سر صموده حتى الآن، لم يكن في ديناميكية هياكله، بل في استمرار التحديات التي واجهها منذ لحظة تأسيسه، والتي لم تترك للقادة بديلا عن التمسك به.
وعودة إلى موضوع الفصل بين السياسة والاقتصاد، ينبغي التأكيد على ألا يكون مصير الوحدة الخليجية خاضعا في اطراده وتداعيه، للعلاقات بين القيادات الخليجية. لا بد أن يبنى الاتحاد على قاعدة، عدم اشتراط التوافق في المواقف السياسية، وأن ما يتحقق من مكاسب للخليجيين، ينبغي أن يظل قائما. وأن تظل المؤسسات الاتحادية بعيدة عن الصراعات السياسية التي من المحتمل أن تحدث بين الأعضاء. كيف نتمكن من تحقيق ذلك؟ ذلك أمر ينبغي أن يكون ضمن مهام الذين يعدون اللوائح والأنظمة والهياكل الاتحادية.
هناك أيضا قضية الكوتا في التصويت بالدولة الاتحادية. فالمبدأ المثالي، هو أن يكون لكل مواطن خليجي صوت. لكن ذلك على الصعيد العملي غير ممكن، بحكم الثقل البشري للسعودية. إن تحقيق ذلك يعني ببساطة أن تكون المملكة هي المصدر الدائم للقرارات. لكن البديل عن ذلك هو بالتأكيد ليس أن يكون لكل دولة خليجية صوت واحد، دونما أخذ في الاعتبار للثقل الاقتصادي والبشري والسياسي لكل دولة منخرطة في المشروع الوحدوي الخليجي.
هذه مسألة يمكن معالجتها، بطريقة التصويت بالاتحاد الأوروبي، بطريقة الكوتا، بأن تقسم بلدان الخليج لعدة مستويات يتوافق عليها قادة المجلس، وتصبح قاعدة مقبولة من الجميع، لا تطغى فيها دولة على بقية دول الاتحاد، وفي نفس الوقت لا يغض الطرف عن حقائق القوة. وتبقى محاور أخرى مهمة ذات علاقة نتناول مناقشتها في أحاديث قادمة بإذن الله.