من أسباب تناغم 'الخليط البشري' وأدائه المميز إحساسه بحفظ كرامته وخضوعه لنظام منصف يعطيه ما له ويحاسبه على تقصيره. ومن هنا يكون الإعجاب بالأنظمة أولى من الإعجاب بالتنافس على تطاول البنيان
تكثر الصحافة من المقارنات بين ما عليه مستوى الخدمات عندنا وما عند بعض البلدان المجاورة التي تتشابه مجتمعاتها مع مجتمعنا وتتزامن نهضتها العمرانية مع سنوات الطفرة وخطط التنمية لدينا. وبعض المدن أصبحت المثال المتكرر في تلك المقارنات حيث اعتبرت معياراً لسرعة إنجاز المشاريع وجودتها واتساع الخدمات واستجابتها لاحتياجات الملايين في فترة وجيزة.. ودائماً ما تدور الأسئلة حول: لماذا لا نستطيع إنجاز ما استطاعته بعض البلدان الأقل إمكانيات ماديا وبشريا؟ وما يتفرع عن هذا السؤال من علامات استفهام وتعجب وحيرة.. وكيف تمكنت من أن تبقى خارج مظاهر التطرف، بكل أشكاله وألوانه، السياسي والديني والرياضي؟ وستظل بعض تلك البلدان مثالاً يغري برصد مظاهر تطورها وتقدمها وصورة التعايش بين مئات الجنسيات التي لا يجمعها إلا تحقيق أهدافها دون أن تسيء إلى الأرض التي احتضنتها.. وتأتي النهضة العمرانية والقفزات الاقتصادية وفضاء الإعلام في مقدمة ما يغري بالثناء وإعادة التساؤل كيف تمكنت تلك الدولة المدينة من أن تكون مسرحاً تتحرك عليه ملايين البشر من مختلف اللغات والثقافات دون أن تتصادم ثقافاتهم وقيمهم ودون أن تعرقل ماكينة الإنتاج.
قال الراوي: (كنت في تلك المدينة مع بعض أفراد أسرتي الأسبوع الماضي واحتاج أحد أفراد العائلة إلى مساعدة طبيب في أمر طارئ لا يحتمل التأجيل فطلبت مساعدة الفندق فتفاعل الموظف وما هي إلا دقائق فإذا الممرض المقيم يقرع الباب وخلال ثوان بدا أنه لا يستطيع تقديم المساعدة المطلوبة لكنه – بكل مودة ومهنية – اتصل باستعلامات المنطقة لمعرفة أقرب مركز طبي.. وفي هذا المركز وجدنا طبيبة من قطر عربي، باشرت الكشف وما لبثت أن قالت، بكل وضوح، إنها لا تستطيع إعطاء العلاج لهذه الحالة لأنه غير مرخص لها بذلك. ولكن تفاعلا مع قلقنا وتعاطفا مع الظرف الإنساني، بادرت بالاتصال على صاحب اختصاص وشرحت له الحالة وناقشته وطلبت منه النصح فاقترح عليها دواء معيناً، وسمعتها تقول: أنا لست مرخصة لإعطاء هذا الدواء فأرجو موافقتكم على توثيق الاعتماد عليكم في صرفه وحصلت على الموافقة (!!).. وفي اليوم نفسه – ونحن في المطار – تجددت الحاجة إلى مساعدة طبيب فاتصل مسؤول الشركة الناقلة بالمركز الطبي في المطار وطلب مساعدتهم، وفي أقل من ثلاث دقائق جاء فريق الإسعاف (شاب هندي وآخر بنغالي) واطلعا على الحالة فتبين أنهما لا يستطيعان تقديم المساعدة المطلوبة لكنهما قاما بالاتصال على المركز الطبي – وهنا مفاجأة أخرى تضاف إلى مفاجآت تلك المدينة – وشرحا للمختص الحالة واتفق معهما على توجيهها إلى مستشفى المطار.. نعم مستشفى المطار وليس مستوصفاً بائساً كما هي حال الكثير من مستوصفات مطارات المنطقة.. ولم يكتف الشابان الهندي والبنغالي بإعطائنا المعلومة بل توليا التنسيق حتى تم تأمين إسعاف ودخل معنا أحدهما لإرشادنا إلى الطريق وتذليل كل العراقيل والصعاب التي قد تواجهنا قبل الوصول إلى الإسعاف الذي جاء في الحال واستقبلنا عند بابه محمود (صومالي مقيم) بابتسامته المضيئة وهدوئه المريح وروحه الطيبة ومعه مساعده الفلبيني الذي شرع في تدوين المعلومات على الكمبيوتر المحمول بكل دقة وهدوء بأسلوب مريح لا يستفز ولا يشعرك بأنك تطلب ما ليس لك أو أنك وافد لا يحق لك أن تكون موضع اهتمام أو احترام.. وحين وصلنا المستشفى الذي يقدم خدماته المجانية إلى الملايين من القادمين والمغادرين بمهنية عالية وإنسانية ضافية دون أن يطلب منهم (إقامات).. عند الباب استقبلنا فادي، (الفلسطيني المولود في لبنان) مرحباً وداعياً بالسلامة لمريضنا ومخففاً بروحه ولطفه آثار المرض على نفسية المرافقين، وشرع في أخذ المعلومات بالسرعة التي تجعلك تشعر أنه ليس لديه مسؤوليات أو هموم غيرك، لم يقطع عمله اتصال هاتف أو تدخل زميل أو الرد على آخر، كان مستغرقاً فأنهى عمله في دقائق وطلب من زميلته التايلندية تسجيل الحالة فأنهت المطلوب في أقل من دقيقة فطلب الانتقال إلى غرفة الطبيب المختص الذي لم يتأخر في إعطاء التعليمات الطبية في الحال.. أنهينا كل هذه الإجراءات والترتيبات في أقل من ساعة، مررنا فيها على فرقة الإسعاف الأولية وطلب سيارة النقل إلى المستشفى وفحص وتشخيص الحالة وصرف العلاج اللازم واصطحابنا إلى قاعة الانتظار في المطار).
انتهى الراوي – مع الاختصار –. وفي هذه الرواية يتجلى السر الذي يغري بالمقارنة مع ما يتم في الكثير من مراكز الخدمات لدينا و ما يعاني منه المواطن والمقيم والزائر في بعضها.. وهنا يبرز سؤال: كيف استطاع هذا الخليط البشري – هندي – بنغالي – فلبيني – صومالي – فلسطيني – أن يؤدي واجباته العملية بهذه السلاسة والمهنية دون أن يفقد إنسانيته أو يسيء إلى كرامة المحتاجين إليها؟.. وأخشى أن يستدعى سؤال آخر مزعج: ماذا سيكون عليه حال أسرة من إحدى تلك الجنسيات إذا احتاجت إلى ما احتاج إليه الراوي في إحدى مطاراتنا؟ كيف سيتم التعامل معها؟ وما الإمكانات المتوافرة التي تساعد على تقديم الخدمة المطلوبة بصورة مقبولة؟ قطعاً الإجابة الصريحة الواقعية ليست في صالح خدماتنا ولأسباب متعددة، يعود بعضها إلى ضعف البنية الخدماتية ويرجع بعضها الآخر إلى نقص التدريب على خدمة الإنسان دون النظر إلى من يكون ومن أين.. وأعتقد أن من أسباب تناغم ذلك الخليط البشري وأدائه المميز هو إحساسه بحفظ كرامته وصون حقوقه وخضوعه لنظام منصف يعطيه ما له ويحاسبه على تقصيره. ومن هنا يكون الإعجاب بالأنظمة أولى من الإعجاب بالتنافس على تطاول البنيان.. ومن أقبح ألوان العجز وأكثرها ألما أن يكون الإنسان قادراً على فعل الأولى ولا يفعل.