نحن في واقع المعايشات الأولية مدعوون للتعاطي مع تجربة الإسلام السياسي بشيء من الإنصاف والموضوعية ومن التفاؤل بإمكانية التعامل مع بوادر النضج السياسي والفكري لدى قادة ومثقفي التيار ورؤيتهم للآخر
وماذا لو حكم هؤلآء..ألم يكن هذا شأن أولئك..؟
ومن قال إن الديمقراطية مصممة على مقاييس رؤيتنا الذاتية.. وما الذي يجعل مذاقها مراً ولونها ممتقعاً وممارستها عملاً شيطانياً حين تتجه محصلتها لمصلحة طرف لا يروق لنا رؤيته على كرسي السلطة.
ألم نردد بكل القوة والحماس مصطلحاتها التوصيفية ونتوافق على تعريفها بـ(حكم الشعب نفسه بنفسه) هل كان هذا حالنا عندما تكون السلطة في متناولنا ونحتاج إلى معارضات هزيلة تؤدي دور المنافس أمام عدسات الإعلام فإذا ما اشتد ساعد أو نهض الآخر الحقيقي أقمنا الدنيا في وجهه وذهبنا إليه بـ(السيوف نخاطبه).
تتوالى الأسئلة دون كلل وتثار المطارحات الوجلة من غير ملل..
الإخوان قادمون..الجماعة يزحفون..
بعضهم يكتم غيظه على هذا النحو فيما يذهب البعض الآخر إلى حالة المجازفة والهذيان
طالبان في الطريق.. المتطرفون وصلوا..؟
إنه خطاب عدمي يعتمد المبالغة والتهويل ويعادل ما كنا نسمعه من أساطير بطولة تمولها وكالة الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه في صراعها القديم مع جهاز الكي جي بي الروسي، وأثناء عملياتها العسكرية التي يقوم على تنفيذها مغاوير يؤدون النافلة في قندهار ولا يتذكرون الفريضة في بيت المقدس.. والأمر ذاته تكرر بنفس اللهجة والحدة على لسان بعض القادة العرب خلال الساعات الأخيرة من عمر الاستبداد الذي كانوه..
في النزع الأخير صرخ القذافي بأعلى صوته (الإرهابيون، الجرذان، المتطرفون، العملاء لن يحكموا ليبيا) كان الرجل ينتظر رجع الصدى في أروقة البيت الأبيض لا مجرد نصائح هامسة مفادها اذهب ولجانك الشعبية فقاتلا..
أظننا في اليمن لم نسمع كلاماً كهذا فقط وإنما رأينا أفعالاً تستنهض القاعدة وتلبس أقنعتها، لعل الحكومات الشقيقة والدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن تغير رأيها إزاء النظام وتساند أجهزته الساهرة لإخماد جذوة الثورة..
بيد أن هذا الخطاب الموجه لاستعداء الخارج والاستقواء به لا يستهدف بحال من الأحوال أيا من القوى والتيارات الضالعة في الإساءة إلى الإسلام أو المتورطة بجرائم إرهابية تستبيح الأرواح والدماء لأهداف سياسية بحتة بل هو يستثنيها ويعقد تحالفاته معها على مواجهة تيار الإخوان المسلمين كما لو كان على هذا التيار أن يحمل السلاح بدلاً عن الحوار وينتهج التكفير عوضاً عن الإقرار بمشروعية التغاير وتباين الآراء واختلاف وجهات النظر.
صحيح أن مناخات الربيع العربي متعددة الأطوار ومن غير الملائم وضع الكيانات السياسية ذات الطابع القومي والأممي في سلة واحدة ذلك أن هذه الكيانات لم تصل بعد إلى أهدافها الاستراتيجية خارج نطاق الدولة القطرية، الأمر الذي يحول وتقييمها بصورة إجمالية لكننا في واقع المعايشات الأولية مدعوون للتعاطي مع تجربة الإسلام السياسي بشيء من الإنصاف والموضوعية ومن التفاؤل بإمكانية التعامل مع بوادر النضج السياسي والفكري لدى قادة ومثقفي التيار ورؤيتهم للآخر وما أسفرت عنه ممارساتهم في تونس وليبيا واليمن من استعداد للشراكة وتفهم إيجابي إزاء القضايا الجوهرية وبمقدمتها بناء الدولة المدنية والانخراط في العملية السياسية والقبول بالتعددية الحزبية والتسليم بحتمية التداول السلمي واحترام حق المرأة في إدارة الشأن العام والتباري البرامجي على ثقة الناخبين ولو لم يكن من داع –للتفهم والمراجعة-غير احترام القيم الكفاحية التي تقف خلف تجارب الإسلاميين الحداثيين وما يتكشف حولها من تلاحم وتماسك وتضحية
أزعم أن ثورات الربيع العربي أزالت الكثير من أعراض القلق إزاء هؤلاء وهي رسمت ملامحهم الجديدة خلافاً لتصوراتنا القديمة.. لقد اشتغل الاستبداد على إفساد علاقات القوى السياسية ببعضها ودفعها إلى حروب هامشية تستنزف طاقاتها بعيداً عن المهام المفصلية في خدمة قضايا التنمية البشرية وبناء مجتمع الكفاية، وأحسب أن تقاطعها مع نظم الحكم المتهاوية سيجعلها قادرة على تعزيز القواسم المشتركة مع من يختلف معها بمثل قدرتها على بناء منظومات معرفية تؤصل معنى التغيير ولا تقتصر مسؤولياته على البعض دون الآخر.
لسنا بصدد غزل إزاء هؤلآء ولا ننكر وجود أخطاء عديدة شابت تجاربهم في هذا القطر أو ذاك ومن المؤكد أن بعضاً من هذه الأخطاء لازمت أداءهم الميداني في معظم ساحات الثورات الربيعية، ومن غير المنطقي أن نتوقعهم ملائكة أو نطالبهم بما عجزنا عن تحقيقه على صعيد المثاليات النظرية في عوالم تقتات على الصراع وتستهلك أعمارها في إنتاجه..
نحن لا نقول شيئاً كهذا ولكننا -ونكبر- نرى مواقفهم الأخيرة في مناهضة الاستبداد ونتذكر الحديث القدسي عن الذين يوفقون بعمل أهل الجنة في خواتم حيواتهم فيدخلونها..ولا شك –والحال ما سلف -أن ربيع الثورات كان زاهياً رغم تخرصات الديكتاتوريات المحذرة من ربيع قندهار..
إن تيار الإسلام السياسي الذي ينبذ العنف ويمقت الاستئثار أو الإقصاء لا يعدو أن يكون أحد رهاناتنا الموضوعية في مواجهة استحقاقات البناء وإنجاز تحديات المستقبل..
وفي تقديرنا أن خطاب الاستعداء جزء من ثقافة الاستبداد وتقتضي الحاجة اعتبار المكاشفات البناءة سبيلاً لتعزيز رهانات التحول الجذري من أجل الأفضل وبالأفضل.. وللموضوع بقية من شجن في دوحة الوطن.