شعوب الربيع العربي بعد أن عانت طويلا من تدني عمل المؤسسات التي تخدمها تطمح في القوى التي أعطتها الشعوب ثقتها، أن ترتقي بعمل تلك المؤسسات على اختلاف أنواعها
يحاول الكثيرون قراءة ما بات يعرف بالربيع العربي لمحاولة الوصول إلى ما بعد الربيع العربي.. فعقدت الندوات وسمع صرير أقلام المحللين بين مغامر أعطى صورة متكاملة من البداية إلى النهاية.. ومحافظ أعطى صورة متحفظة ولعل من أهم محاولات قراءة هذا المشهد مؤتمر فكر بعنوان ماذا بعد الربيع العربي الذي عقد في دبي في الفترة من5-7 ديسمبر 2011، وخصصته مؤسسة الفكر العربي لقراءة ما بعد هذا الحدث التاريخي لمحاولة رصده ومعرفة تبعاته.. وتسمية الربيع جاءت على ما يبدو كرمز للتفاؤل والجمال والأمل تماماً مثل ما يحمله الربيع من ورود وزهور وأجواء جميلة وأوقات ممتعة.. والواقع أن هذا الحدث التاريخي وما نتج عنه حتى الآن كان مفاجأة لكل أساطين السياسة وعمالقتها ومنظريها في جميع أنحاء العالم بما في ذلك الغرب بكل أدواته ومراكز أبحاثه ومنظريه الذين عرف عنهم دقة البحث والدراسات وبناء القرار على أسس علمية بعد الدراسة والفحص الدقيق.
كانت رؤية الغرب أن التغيير في الوطن العربي لا بد أن يأتي من الخارج.. ويفرض عليه .. وأحداث غزو العراق وأهدافها وتصريحات السياسيين الأميركيين أتت في هذا السياق ولفرض شكل من أشكال الديموقراطية يتم تعميمه على جميع دول العالم العربي..ROLE MODLE. وخابت توقعاتهم مرتين، فهم لم يتمكنوا من فرض الديموقراطية في البلاد التي احتلوها ولم يتوقعوا أحداث الربيع العربي..فشل هذا المفهوم كان أول نتيجة مباشرة للربيع العربي.. ونسأل عن دوافع الربيع العربي؟ وهل نجح في تحقيق أهدافه وإجابة مطالبه؟ وهل سينقلب الربيع على نفسه يوما ما؟ وهل نستطيع قراءة ما بعد الربيع؟
عندما بدأت الدول الغربية وبالخصوص أميركا تغزو بعض الدول العربية والإسلامية كانت تعلن أن الهدف هو إبعاد الحكومات الدكتاتورية والمتعصبة وإحلال بدائل تكون أنظمة ديموقراطية وسطية.. وكان قادتها يعلنون يوماً بعد آخر أن الأنظمة القديمة سترحل بعد تلك الحروب وبعد هجوم إسرائيل على فلسطين ولبنان وما خلفته من دمار فظيع وكانت تبرر نتائج الحرب والدمار الذي نتج عن تلك الحروب بأنها العملية الجراحية التي سيعقبها شفاء وبلسم. لكن الواقع اتضح بعد ذلك بأن الحروب قد خلفت الدمار والمعاناة والمرارة والانقسام في الشعوب وزيادة التطرف والإرهاب وازدادت الحكومات الدكتاتورية دكتاتوريةً.. فبدأت الشعوب بالتذمر والغليان وطفح كيلها بعدما يئست من المناداة بالإصلاح والتغيير.. وبعد أن استمرت ردحاً من الزمان تطالب به انتقلت إلى مرحلة أخرى رفعت فيها سقف المطالبة بأن ترحل الأنظمة ويحاكم قادتها.. وهنا انقلبت الموازين التي كانت لا ترى قدرة في إحداث تغيير من الداخل.. نجح داخل هذه الأنظمة في إحداث تغيير من الداخل.. وهنا قفز الغرب إلى المشهد حتى لا تضيع مصالحه متشدقاً بحماية الديموقراطية وحكم الشعوب لنفسها وتكريس اقتسام السلطة وتنحي الديكتاتوريات في تحول غريب وعجيب في نظرة الغرب التي كنا نظن أنها مقدسة ولا تتغير ولا تتبدل.. فإذا به يرقب المشهد حتى تتضح له صورة المركب الأسرع الذي سيتقدم السباق ثم تركبه.. هذا المفهوم الغربي كان واضحاً وجلياً دون حاجة إلى ذكاء.
هل نجح الربيع العربي في تحقيق أهدافه؟ المشكلة أن الذين حققوه وجدوا أنفسهم أسيرين لثقافة ترسخت لعقود طويلة.. وأصبحت مسيطرة على سلوكهم.. فالثقافة لا تحدد الهوية فقط، لكنها تحدد السلوك أيضاً.. الذين صنعوا الربيع العربي لا يتحدثون عن المستقبل بشكل مركز وخيار وحيد ..مازالوا يتحدثون عن الماضي وماتم فيه وكيف يمكن أن يتم الانتقام وتتم المحاسبة ويأخذ فلان وعلان عقابه هذه ثقافة هدامة.. المفروض أن يترك أمر الماضي للجهات القضائية للحسم فيه ويتم المضي قدماً. نتذكر فضيحة ووترجيت عندما أعفى الرئيس جيرالد فورد الرئيس نيكسون عام 1973 وقال مخاطباً الشعب بمؤسساته الثائرة: أرجو أن تضع الأمة هذه القضية وراء ظهرها ونصرف كل دقيقة من وقتنا في البناء.
الشعوب تغلب عليها النزعة الإيمانية ولهذا وثقت في من تراهم كذلك آملين تحقيق مطالبهم.. لكن الشعوب ستنقلب عليهم إذا رأت على أرض الواقع أنها ما زالت تفقد حرياتها وتتدنى مشاركتها السياسية وتُنهب ثرواتها أو يبقى مستوى معيشتها في المستوى الذي بسببه ثارت ولتحذر تلك القوى من الثقة الزائدة بنفسها المعتمدة على عدد الأصوات ظانة أنه مؤشر عشق أبدي تحت كل الظروف.
هل نستطيع قراءة ما بعد الربيع؟ سؤالنا الأخير هو الأصعب ولم أر من غامر بالإجابة عليه حتى المشاركون في مؤتمر الفكر قاموا بقراءة الأحداث ولم يغامروا بقراءة ما بعد الربيع، ربما السبب كما ذكرنا سابقاً أن الـربيع العربي ما زال في طور التشكل.. وخلاصة القول أن شعوب الربيع العربي بعد أن عانت طويلاً من تدني عمل المؤسسات التي تخدمها تطمح في القوى التي أعطتها الشعوب ثقتها أن ترتقي بعمل تلك المؤسسات على اختلاف أنواعها.. وأستطيع أن أجزم أن الشعوب التي وضعت فئات مـحددة في مراكز القوى كان بدافع الأمل أن تحقق لها كل ذلك.. وأستطـيع أن أجزم كذلك أن تلك القوى عندما تعجز أو تسوف أو تحاول خداع الشعوب فإن الـشعوب لن تكتفي بإسقاطها فحسب بل ستتعدى ذلك إلى فقد الثقة فيها وإلى الأبد.