العلم هو منهج التفكير الذي يقوم على العقلانية، السببية، التي توفر التنظيم وفقا لقوانين موضوعية تجريبية أو منطقية أو رياضية ويعطي نتائج يمكن التأكد من صحتها تجريبيا أو حسابيا
لا يزال هذا السؤال مطروحا لأكثر من هدف وانطلاقا من أكثر من توجه. في القرن العشرين طرح هذا السؤال أكثر من مرّة بسبب تطورات داخل السياق العلمي (في الفيزياء والجينات تحديدا) أو بسبب ظروف سياسية (الحروب العالمية) أو بسبب تطورات فلسفية (المنطقية الوضعية والمفهوم الجديد للفلسفة). كل هذه الأسباب وغيرها طرحت سؤال العلم من جديد في الغرب تحديدا. أما في سياق الثقافة العربية الإسلامية فإن السؤال يجب أن يطرح من جديد بسبب اللبس السائد حول مفهوم العلم وبسبب الصراع الأيديولوجي حوله. نجد مثلا في بعض التيارات إصرارا على حصر وصف العلمية في المجالات الدينية دون غيرها باعتبار أن العلم الحق هو العلم الشرعي. ورغم اتساع الدلالة اللغوية لكلمة علم إلا أن البحث المعرفي يتوجب بالضرورة الفصل المفهومي بين العلم والأدب والدين والفلسفة وغيرها من مجالات المعرفة.
في البدايات الأولى للاتصال العربي مع الفلسفة اليونانية نجد أن تمييز السياق العلمي موجود بصفة أولية. تأثرا بالتمييز الأرسطي الأصلي، يقول الكندي في هذا السياق فينبغي أن نقصد لكل مطلوب ما يجب، ولا نطلب في العلم الرياضي إقناعا، ولا في العالم الإلهي حسا ولا تمثيلا، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في البلاغة برهانا، ولا في أوائل البرهان برهانا.( ص33). يتضح هنا أن الكندي يعي تماما ما ينبغي أن نبحث عنه في الرياضيات والعلم والميتافيزيقيا لكن يجب أن نتذكر أمرين: أولهما أن العلم إلى ما قبل العصور الحديثة كان جزءا من الفلسفة وأن اختصاصه بمنهج محدد لم يتأت بعد. ثانيا: أن السياق الفلسفي الذي تحرك فيه الكندي وحاول أن يؤسس له لم ينجح ولم يستطع العلم في الثقافة العربية أن يؤسس له منهجا خاصا ومؤثرا في المجتمع في نفس الوقت وهذا كله يعني أننا يجب أن نعيد طرح سؤال ما لعلم مرّة أخرى.
وباعتبار أن المنجز العلمي اليوم هو منجز غربي في الأساس فإننا سنبحث هناك عن مفهوم كما هو مطبق ومتداول حاليا. يواجهنا مباشرة التصنيف المدرسي في المدارس والجامعات الذي يقسم التخصصات إلى أدبية يجعل فيها (اللغات والفلسفة والتاريخ والآداب والاجتماع والنفس..) والأقسام العلمية وتحتوي تحديدا (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا). إلا أن هذا التصنيف المدرسي يأتي من أجل التنظيم الأولي وإلا فإن رؤى عدد من العلماء والفلاسفة لا تؤيد هذا الفصل الحاد ففي، موسوعة لالاند الفلسفية شبه اتفاق على أن صفة العلمية اليوم هي صفة منهجية بمعنى أن هناك معايير معينة إذا توافرت في التفكير أصبح علميا بغض النظر عن موضوع البحث. يورد لالاند هذا التعريف: العلم هو مجموعة معارف وأبحاث على درجة كافية من ناحية الوحدة والعمومية، ومن شأنها أن تقود البشر الذين يتكرّسون لها إلى استنتاجات متناسقة، لا تنجم عن مواضعات ارتجالية ولا عن أذواق أو اهتمامات فردية تكون مشتركة بينها، بل تنجم عن علاقات موضوعية نكتشفها بالتدرج ونؤكدها بمناهج تحقق محددة. ص 1249). إذن هنا تأكيد على المنهجية الموضوعية الدقيقة القادرة على تقديم نتائج كما يستبعد هذا التعرف أحكام الذوق والفنون والجماليات.
من جهته آينشتاين، عالم الفيزياء الشهير يعرف العلم بأنه السعي عن طريق التفكير المنظم نحو تجميع كل الظواهر الممكن إدراكها حسيا في هذا العالم في ارتباط شامل قدر الإمكان. إذن فآينشتاين يحصر العلم في ما يمكن ملاحظته حسيا في هذا العلم المحسوس على أن يكون المنهج منظما عقلانيا يوفر ربط الظواهر في سياق واحد. ويضع فيلسوف العلم الفرنسي إيمر لاكتوس شرطين لوصف نظرية ما بأنها علمية: الأول يجب أن يكون منهج البحث على درجة من الترابط تتيح له أن يتضمن تعريف منهج من أجل البحث المقبل، ثانيا يجب أن يؤدي منهج البحث إلى اكتشاف ظاهرات جديدة، اتفاقا على الأقل وقد عرض لاكتوس الماركسية وسيكولوجيا فرويد كمنهجي بحث يلبيان المعيار الأول لكنهما لا يلبيان المعيار الثاني، وعلم الاجتماع الحديث كمنهج ربما يلبي المعيار الثاني ولكنه لا يلبي المعيار الأول.( ألان شالمرز، ما هو العلم ،صـ120).
كما نجد عالم الرياضيات وفيلسوف العلم كارل بوبر يضع شرطا واحدا هو القابلية للتكذيب فبوبر لا يهمه كيف استنتجت النظرية بل يهمه فحصها بعد أن تنتج وفقا لمعيار قابلية التكذيب أو التفنيد وهذا المعيار هو الحد الفاصل بين العلم واللاعلم. ومعيار القابلية للتكذيب أو التفنيد يعني أن النظرية تسمح بإجراء اختبارات تكذيب عليها. وصمودها أمام التكذيب هو الذي يعطيها قيمتها العلمية. لا يهم هنا عدد الملاحظات والشواهد على صحة القضية بقدر ما يهم أن تكذيبها ممكن ولكنه لم يحدث. النظريات غير الممكن تكذيبها تجريبيا هي نظريات غير علمية. يقارن بوبر بين الماركسية والفرويدية من جهة والنظرية النسبية لآينشتاين من جهة أخرى. النسبية يمكن إجراء تجارب تكذيب لها. أي إجراء اختبارات هدفها تكذيبها ومع ذلك صمدت ولذا فهي علمية حتى الآن. أما الماركسية والفرويدية فلا يمكن إجراء تجارب لتكذيبهما فهما محصنتان ضد التكذيب بسبب غموضهما أو بسبب آلياتهما المصممة للتملص من الأدلة المضادة ولذا فهما غير علميتين. لا يعني هذا عند بوبر أنه لا فائدة من هذه النظريات ولكنه يعني أن التعامل من هذا المنظار يساعد على الاحتراس من نتائجها ومقولاتها.
من هذا كله يمكن لنا القول إن العلم هو منهج التفكير الذي يقوم على العقلانية، السببية، التي توفر التنظيم وفقا لقوانين موضوعية تجريبية أو منطقية أو رياضية ويعطي نتائج يمكن التأكد من صحتها تجريبيا أو حسابيا. وهو بهذا الشكل منهج يشمل العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية جميعا متى ما توفرت فيه هذه الشروط. وبهذا نكون قد فصلنا العلم عن الميتافيزيقيا باعتبار أنها تنطلق من منطلقات غيبية وتحيل إلى عوالم ميتافيزيقية، كما نفصل العلم عن الفلسفة باعتبارها بحثا نظريا خالصا. كما نفصل العلم عن الأدب باعتبار الأدب ذاتي النزعة لا موضوعيا.