استغلال طاقات الشباب بفتح مجالات التعليم والتدريب الحديث أمامهم الذي يؤهلهم لتسخير طاقاتهم الشبابية الخلاقة للرقي والتقدم بعالمهم الواقعي هي أولى الخطوات الواقعية الفاعلة لسحبهم من عالمهم الافتراضي إلى عالمهم الواقعي وجعلهم فاعلين فيه

العالم الافتراضي (Virtual world) هو مصطلح حديث ظهر لأول مرة مع ظهور التقنية الرقمية الحديثة وخاصة برامج الألعاب الإلكترونية المجسدة أو ثلاثية الأبعاد، المعروضة على النت، التي تتطلب لاعبين كثرا من عدة بلدان وخلفيات ثقافية متنوعة، يدخلون موقع اللعبة ويبدؤون اللعب مع بعض حسب نظام وقوانين اللعبة. وتم تطوير هذه الألعاب لتصبح جزرا أو مدنا أو مزارع جماعية يدخل إليها أشخاص بالآلاف من عدة دول وخلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة ويعيشون ويتفاعلون مع بعضهم بعضا من خلال صور مجسدة وأسماء محددة سواء حقيقية أو وهمية لكل منهم. وكان أغلب مرتادي مواقع هذه الألعاب هم من الشباب والشابات الذين يقضون في عالمهم الافتراضي، الساعات الطوال يومياً وتصل لمدة أسابيع وأشهر في بعض الأحيان.
وانتقل مصطلح العالم الافتراضي سريعاً لحقول مثل علم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الإعلام وحتى علم الجريمة بعد تهافت بقية فئات المجتمعات على ارتياد العالم الافتراضي إثر تطور وانتشار تقنيات التواصل الاجتماعية الحديثة التي أفرزتها وعممتها المدنية الحديثة وجعلتها في متناول الجميع، مثل الجوالات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك والتويتر والفضائيات (الإعلام الجديد). وأصبح عدد من يتعاطون مع العالم الافتراضي كبيرا، إن لم نقل معظم فئات المجتمعات، حيث لقي ترحيباً منقطع النظير خاصة من قبل المجتمعات التقليدية التي أخذ يمثل لأفرادها هروبا مستساغا من عالمها الواقعي الممل والرتيب.
الطبيعة، كما يقال، تخشى الفراغ؛ ولذلك تبحث عن ملئه بما يتاح ويتوافر ويطرح نفسه كبديل مغر ومنافس لما هو موجود. والإنسان بطبعه باحث عما يسد حاجاته المادية والغريزية والمعنوية حتى ولو كانت هذه الحاجات تتوافر في عالم افتراضي، خاصة عندما يكون الواقع المتاح شحيحا لدرجة الجوع أو الظمأ والبديل يبدو للوهلة الأولى بأنه مريح ومغر وغير ذي تكلفة في الانتقال أو التبعات الرقابية أو العقابية. وهنا يطرح العالم الافتراضي نفسه بكل مغرياته وعوالمه المجهولة كمنافس لعالم الفرد الواقعي المعلوم؛ حتى يصبح العيش في العالم الافتراضي اعتيادا نفسيا لا إراديا يصعب الانفكاك منه، أي حالة إدمان. ومن هنا تتم إعادة صياغة شخصية الفرد على حسب خيارات ومعطيات العالم الافتراضي المتاحة والجاذبة له ويفارق تدريجياً شخصيته التي شكلها عالمه الواقعي. وهنا ينشب صراع داخل الفرد بين شخصيته التي أرادها له عالمه الواقعي وشخصيته التي أرادها هو من خلال عالمه الافتراضي. وهنا يكون الفرد أمام خيارين إما محاولة فرض عالمه الافتراضي على عالمه الواقعي أو النكوص المدمر على عالمه الواقعي وقيمه التي فرضها على شخصيته.
الشباب في المجتمعات التقليدية أكثر من عاش هذا الصراع لفترة، ثم التفتوا إلى عالمهم الواقعي وفرضوا عليه واقعهم الافتراضي الجديد عن طريق العنف والثورة، وهذا ما حدث في بعض بلدان العالم العربي من خلال ما أطلق عليه الربيع العربي. الإعلام الجديد يفترض أن ثورة ما تحدث في مكان ما ويكررها ويؤكد على حدوثها من خلال نشطاء افتراضيين ومراصد حقوق افتراضية؛ فتحدث الثورة والتغيير. وقد طرح العالم الافتراضي بكل جدارة نفسه كسلطة رابعة مؤثرة وفاعلة كبديل للسلطة الرابعة الإعلام التقليدي الذي تراجع أمام زحفها الكاسح وفاعليتها غير المتوقعة أو المحسوبة.
إن إقصاء الشباب من عالمهم الواقعي يدفعهم بلا هوادة للعيش في عالمهم الافتراضي والمكوث فيه لفترة قد تطول أو تقصر ثم ينكصون على عالمهم الواقعي ويفرضون عليه بطريقة عنفية أو أخرى عالمهم الافتراضي الذي شكل شخصياتهم الجديدة وأصبحوا قياداته وجمهوره والفاعلين الوحيدين فيه بلا منافس.
لما سئل جمال مبارك عن شباب العالم الافتراضي الذين أخذوا ينزلون من عالمهم الافتراضي لتغيير عالمهم الواقعي ليكون مشابهاً أو قريباً منه؛ ضحك ضحكته الصفراء الساخرة الشهيرة، وقال بكل ثقة متعجرفة بثبات أركان عالمه الواقعي دول شويت عيال. وفي أقل من شهرين وضعه الشويت عيال هو ووالده وبقية أركان حكم العالم الواقعي بين قضبان قفص الاتهام في محاكمة لم تشهد مصر مثيلا لها منذ الفراعنة.
إذاً فسلطة العالم الافتراضي الجديدة هي سلطة نافذة ومؤثرة متفاعلة مع محيطها وبنفس الوقت، فاعلة فيه، وقد تكون فاعليتها أسرع وأكثر تدميراً مما نتوقعه؛ وعليه فيجب أن يحسب لها ألف حساب. وأقصر طريقة لفعل ذلك هو فتح العالم الواقعي أمام الشباب وجعله منافسا إن لم نقل أكثر جذبا لهم من عالمهم الافتراضي.
إن استغلال طاقات الشباب بفتح مجالات التعليم والتدريب الحديث أمامهم الذي يؤهلهم لتسخير طاقاتهم الشبابية الخلاقة للرقي والتقدم بعالمهم الواقعي لهي أولى الخطوات الواقعية الفاعلة لسحبهم من عالمهم الافتراضي إلى عالمهم الواقعي وجعلهم فاعلين فيه. مع فتح آفاق الأمل أمامهم بالوظائف المناسبة لتخصصاتهم ومؤهلاتهم وفتح مجالات الاستثمار لهم مع توافر مقومات الحياة من سكن ورعاية صحية بأسعار تتماشى ودخولهم المالية. كما أن فتح مراكز ترفيهية جاذبة للشباب ليقضوا بها وقت فراغهم مثل دور السينما والمسارح والحفلات الموسيقية والغنائية والأندية الثقافية والفنية التي ترعى وتنمي مواهبهم لهي سدود تمنع تدفق تسونامي العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي وتحميه من الغرق في بحر الفوضى والتدمير.
الشباب اليوم، ليسوا الشباب بالأمس ولا يمكن تجاهلهم بسهولة، حيث اندمجوا مع واقعهم بواقعية أكثر، فالواقع بالنسبة لشباب الأمس هو امتداد لتاريخهم الذي يسعون للحفاظ عليه والتغني به وتجسيده من خلال أيديولوجيات حقيقية أو متوهمة. أما الواقع لشباب اليوم فهو يجسد بالنسبة لهم، منصة انطلاق لمستقبلهم الذي يحلمون بتشكيله ويتوقون إلى ولوجه وقيادته. الشباب اليوم لا يلتزمون بتاريخ ولا تحركهم أيديولوجيا، إنهم أكثر واقعية من منظري اليمين أو اليسار في واقعهم المعاش. إنهم إفراز تربية الطبقة الوسطى الحقيقية غير المصطنعة التي أخذت تحركهم ويستجيبون لها، حيث عاشوها وخبروها وتذوقوا طعمها الحالي بالنسبة لهم من خلال عالمهم الافتراضي.
شباب اليوم ألغيت ـ بالنسبة إليهم ـ الحدود التي خبرها آباؤهم وأجدادهم وبنوا عليها خصوصياتهم؛ حيث لا وجود للحدود في عالمهم الافتراضي الذي سكنوه وعايشوه وأحبوه، لا من بعيد ولا من قريب. وكان هذا إعلانا بموت الخصوصية بالنسبة إليهم مع انتفاء الحدود ما عدا خصوصيتهم الإنسانية المتماثلة مع إنسانية غيرهم من رواد عالمهم الافتراضي من كل أنحاء الأرض وخلفياتهم الثقافية.
بالرغم من أن كثيرا مما يعايشه الشباب في عالمهم الافتراضي هو في الحقيقة افتراضي؛ ولكن كونه يحركهم يحتم علينا أن ننظر إليه على أنه حقيقي ولو على سبيل فهمهم وفهم مرحلتهم الشبابية الجديدة والغريبة علينا من أجل تحجيم الفجوة بين عالمهم الافتراضي وعالمنا الواقعي. وذلك من أجل انتشالهم من هامش عالمنا الواقعي إلى مركزه.