محاظير الورقة الأخيرة كفيلة بإحباط حصول المقصود منها وتعثره؛ خصوصاً ممن يعلم مغبة التعرُّض لها من طلبة العلم الشرعي، ومن الآمرين بالقسط
للورقة الأخيرة أهمية كبرى في التراث الإنساني، إذ لا تكاد ترى مجتمعا ولا ديانة إلا وتجعل للورقة الأخيرة أهمية خاصة، وتحيطها بكثير من العناية، وتعلق عليها الكثير من الآمال؛ سواءٌ: من جانب واحد يبغي بها مصلحته هو، أو من الجانبين لمصلحتهما، أو من أحد الجانبين لمصلحة الجانب الآخر.
إن الورقة الأخيرة كثيرا ما تظهر في المغالبات والمفاوضات والمرافعات، بحيث يحتفظ بها كل طرف من أطراف المسابقات وأطراف الدعوى والمفاوضات؛ ليظهرها في آخر الزمن المتاح له، فيضمن بها فوزه أو انتصاره، أو حصوله على أكبر قدر مما يفاوض فيه.
وتكتسب هذه الورقة أهميتها في شريعة الإسلام لورودها في حديث البطاقة الشريف الذي رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا!، يا رب. فيقول: أفلك عذرٌ؟ فيقول: لا!، يا رب. فيقول: بلى! إن لك عندنا حسنة؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقول: احضر وزنك!. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيءٌ). رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني.
لقد جعل الله عز وجل لهذه البطاقة أهمية لا يساويها شيء عند وزن الأعمال يوم القيامة، بتعديلها مصير ذلك العبد ومآله؛ من أن يكون من أهل النار إلى أن يصير من أهل الجنة؛ ببركة ما كتب له في الورقة الأخيرة.
أما العبد فقد زهد في تلك البطاقة لما رأى من هول سجلات سيئاته التي جثمت على كفة ميزان الأعمال، واستبعد أن تزحزح الورقة الأخيرة تلك الكفة الراجحة؛ فضلا عن أن تقلب الموازين لصالحه، ولكن الله عدلٌ لا يظلم الناس شيئا، فكان للبطاقة الأخيرة الأثر الكبير في ترجيح الموازين، وتعديل النتائج بفضل من الله جل ثناؤه.
إن هذه البطاقة تحوي آدابا ينبغي التنبه لها عند العزم على استخدام تقانة الورقة الأخيرة في مجالاتها المتاحة لها، وكذا عند ادخار محتواها قبل ذلك؛ فالبطاقة صغيرة، والمكتوب فيها وجيز مفيد، وهذا يوجب أن تكون الورقة الأخيرة واضحة هامة وصادقة.
وفي الشأن القضائي تكون الورقة الأخيرة سلاحا لكل من المتداعين، حيث يتيح بعض القضاة لأطراف الدعاوى الشائكة والمتشعبة: أن يقدموا مذكرة أخيرة تحدد مواقفهم النهائية من الدعوى قبل قفل باب المرافعة.
كما أن الورقة الأخيرة سلاحٌ لرئيس المحكمة أو القطاع أو المرفق عندما يضطر إلى الكتابة بشأن أحد منسوبي محكمته أو جهازه إلى مرجعه بعد استنفاده كل الطرق الودية والنظامية الواجب اتخاذها أولا.
والكتابة من هذا النوع يشوبها الانتصار للنفس في كثير من الأحوال، ولذلك صارت موضعا للخلل لدى الكثير، فتجد أحدهم يحشو ورقته الأخيرة بالكثير من المعلومات الصادقة والمتوهمة والخاطئة، فيشوش بعضها على بعض، وتفقد تبعا لذلك مصداقيتها، ويضيع الأثر المنشود من استخدامها.
ولأن الورقة الأخيرة مهمةٌ جدا في عالم الإدارة: فمن اللازم معرفة ما يجب اجتنابه عند استخدامها من محاظير تنزع البركة منها، وتعود على صاحبها بضد ما يؤمله منها، وهي على النحو التالي:-
1- سوء المقصد: وهو محظور عام في كل الأعمال؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
2- البهتان: فقد جعل الله الغيبة سببا لعذاب القبر، وهي ذكر المسلم أخاه بما يكره وهو فيه، فكيف بذكره بما يكره مما ليس فيه، ومن البهتان التدليس عند الاستشهاد باجتزاء النصوص واقتطاع أولها أو آخرها؛ لتظهر كما لو أن قائلا قال {فويلٌ للمصلين} وسكت.
3- التوهم: بأن يعمل كاتبها ظنه الآثم، فيتخيل أمرا، ثم يعتقد صدقه، فيعرض به أو يلمح إليه.
4- الإطناب: فالإطالة مدعاة للتبرم، ومظنة التشفي والانتصار للنفس.
5- التشتت: ويتمثل في عدم انتظام معلومات الورقة، فيصدم بعضها بعضا؛ مما يشتت ذهن قارئها، فينصرف عنها وعما تهدف إليه.
6- الامتنان: لأن المنة من الأعلى تبطل عمله، فصدورها من الأدنى أقبح وأشنع أثرا.
7- التهديد: فمتى احتوت الورقة الأخيرة تعريضا من صاحبها بعدم احتماله ونفاد صبره: كانت سببا لتعرض صاحبها لما يثير عليه سخط قائده أو متبوعه.
8- الاستعداء: لأنه من مظاهر الضعف والتحيز وقلة الحيلة ممن لا ينبغي منه الاستسلام، ولا يسوغ له إظهار الإحباط.
9- إساءة انتقاء التعبيرات: كأن تضمن الورقة عبارات غير مأثورة إلا عن أهل السوء؛ كما قال كفار قريش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سفه أحلامنا، وكما قال فرعون {وإنا لجميعٌ حاذرون}. ونحو ذلك من عبارات أهل الجور والضلال.
10- الإقرار بالمخالفة: فقد يرى بعضهم أن يترك أمرا انتظارا لما يقرره رئيسه ويذكره في ورقته، في الوقت الذي هو يخالف أمرا سابقا له بعدم التفريط في هذا الأمر وتركه.
إن محاظير الورقة الأخيرة كفيلة بإحباط حصول المقصود منها وتعثره؛ خصوصا ممن يعلم مغبة التعرض لها من طلبة العلم الشرعي، ومن الآمرين بالقسط؛ إذ إن عود المخالفة عليهم بالسوء أشد وأسرع من عودها على من يجهلونها؛ تحقيقا لقول الله تعالى {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}، وقوله سبحانه {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } الآية..