الاختبارات أوراق مرعبة لا تقبل سوى إجابات مغلفة جامدة، جعلها تعليمنا تمثل كل خبرات الطالب ونموه ووسيلة قياس قاصرة للحكم على الإنسان بأنه ناجح أو فاشل!

لم يكمل تعليمه المدرسي الحكومي إلا لثلاثة أشهر فقط ليقيم توماس أديسون معمله الاختراعي، ولم يكتف نيوتن بما تقدمه المدرسة، ولم تمنعه أسوارها من الاطلاع على فلاسفة مثل أرسطو وجاليلو وغيرهما، أما صاحب النظرية النسبية فكان من المصنفين المتأخرين في مادتي العلوم والرياضيات بحسب تصنيف (اختباراته) وتحصيل درجاته المتدنية تحصيلاً، لينفرد اينشتاين خارج موسوعة السين سؤال في نهاية كل فصل دراسي.. وداروين كان يهرب من المدرسة ليتسلق الأشجار، ويراقب ذهاب وإياب خارطة طريق قوافل النمل، أما باستير فكان متهما بكثرة السرحان لدرجة أنه صنف كمريض بالذهان في مدرسته، أما بيل جيتس فترك الدراسة والاختبارات ونجح في امتحان الابتكار الاقتصادي بنظام ويندوز للبرمجة ليصبح أغنى شخص في العالم.
هؤلاء وغيرهم عبر التاريخ ألهبوا عقولهم بحثاً واختراعاً، كسروا حواجز لغة التفكير وأسئلته، هرباً من الدراسة وأسئلة الاختبارات التي لا تقبل سوى إجابات مغلفة جامدة متبلدة سميت إجابات نموذجية، والتي مثلت ثوابت لكثير من الأنظمة التعليمية وإرهاصاتها ومستقبلها، وكانت شريكاً رئيساً لمخرجات قاصرة في عقل الإنسان قبل نواتج التعليم لضعف تقويمها ودعمها لمجالات التنمية في المجالات التقنية أو التطبيقية، وضعفها في مواكبة التحديات للألفية الفكرية.
اختباراتنا الدراسية – التي يعيشها طلابنا وتعليمنا الآن - كأداة (وحيدة) لتقويم التحصيل العلمي لطلابنا تعاني الضعف كوسيلة تحكم على إنسان بكامل قواه العقلية وطاقاته الكامنة بأنه إنسان ناجح أو أنه إنسان نجح في الفشل، عبر أوراق بيضاء مصفحة فقط تمثل هذا الطالب (الإنسان) كعلامات، وكأن خبرات الطالب وحضوره وتفاعله ونموه متمثلة في تلك الورقة المرعبة التي جعلت من نظام الاختبارات مارداً عتيداً يجلد ويمارس سلطويته النافذة على طلابنا وأسرنا.
ولأن الهدف العام للتعليم هو النمو الشامل للطالب، فبالتالي الاختبارات تمثل انفصالاً تاماً للطالب عن المنهج الدراسي والتحصيل العلمي، وتجعله في دائرة التذكر فقط بتقصي المعلومة وحفظها وتخزينها في الذاكرة، واسترجاعها فقط في (ورقة) أثناء الفصل الدراسي ونهايته من كل عام، حتى حصوله على شهادة تخرجه من الجامعة! والمحصلة إصرارنا على بقاء أداة قاتلة لروح الإبداع الكامن لطلابنا وللتعلم التطبيقي المهاري والتفكير الإبداعي، مما جعلها سبباً لنفور طلابنا من المدرسة وحبها والانتماء لها، بدلاً من أن تكون مؤسسة جاذبة في حياة الإنسان المعاصر، وما يؤيد ذلك أسفاً مشاهد تتكرر كل فصل دراسي يشوه العملية التعليمية، بتمزيق طلابنا للكتب الدراسية بعد الخروج من قاعة الامتحانات، بالإضافة إلى انتشار محاولات الغش المستميتة بجميع الطرق وتفننها، أما الاستنفار الأسري ومشاكله فهي لازمة سعودية تتكرر سنوياً عدة مرات، مما جعل الاختبارات هاجساً كبيراً للمجتمع بأسره، وعاملاً مهما في تهديد مستقبل الطلاب ليس العلمي فحسب، بل تعداه إلى العامل النفسي والمهني.
الكثير من النظم التعليمية في كثير من الدول انتقدت خطر الامتحانات الحاكمة (الوحيدة) والمقيدة للإنسان في دراسته بالنجاح والفشل، والحكم على معرفته وخبرته واتجاهاته واستعداداته ونشاطه، حتى بدأت هذه الدول بتغيير وتشكيل أدوات التقويم لقياس مستوى الطالب وبتغذية راجعة للمتعلم؛ فطرق القياس وأدوات تقويم مستوى الطلاب كثيرة وعديدة – وقد ذكرتها في مقال سابق - ولكن تعليمنا يهملها بوضع الاختبارات كركن وحيد أهمل فيه بقية طرق القياس، فالعلامات التي توضع على الاختبارات تمثل نسبة كبيرة جداً من القياس، ونحن لسنا مع إلغائها تماماً، ولكننا لسنا مع قياس مستوى أبنائنا الطلاب عبرها فقط، بل بتقليص هذه النسبة الكبيرة لتوزيع الدرجات، وإعطاء بقية أساليب القياس مساحة لتقيس جميع مستويات التعلم التي اكتسبها الطالب من خلال دراسته لعام كامل كمطلب تعليمي حديث وعادل في نفس الوقت، حيث يمكن تطبيق القياس وأدوات التقويم كالملاحظة، وملف الطالب، والواجبات المدرسية، والتجارب المعملية، والأبحاث، والكوزات Quiz، والمشاريع، بالإضافة إلى الأنشطة الصفية، والأنشطة اللاصفية، مع تطبيق جزءٍ من التقويم المستمر طوال العام الدراسي (تطبيقاً سليماً) وليس كما يحدث في المرحلة الابتدائية الآن (وهو ما سأعود إليه في مقال آخر).
نتيجة اختبارات طلابنا ليست المقياس الوحيد لتعليمهم وتعلمهم، وهي لا تعني أيضاً أن الطالب الذي يكون تحصيله متدنياً هو طالب ضعيف علمياً ولم يتعلم أو تتقدم خبراته وقدراته واستعداداته، والعكس كذلك، ليبقى السؤال الأهم بطرحه علمياً ومنطقياً، هل النتائج (العلامات) التي يحصل عليها الطالب في مدارسنا تعكس وتمثل واقعه المعرفي والمهاري فعلاً؟