غالب البشر اليوم منخرطون في عملية تواصل وتعليم يومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي ولا بد أن تنعكس تجربتهم هذه على الواقع التقليدي المحيط بهم

في المقالات الثلاث الماضية حاولنا تصور موقف التعليم العربي الحالي وسط التحولات السياسية والاجتماعية التي تمر بعدد من الدول العربية. أين يقف التعليم العربي اليوم وسط رحلة البحث العربية عن الديموقراطية؟ كان هذا هو السؤال المحور. التعليم والديموقراطية كلاهما يتأسس على فكرة التواصل الحر بين البشر. التعليم تواصل باعتباره مشاركة للخبرات والمعارف، والديموقراطية تواصل أيضا باعتبارها شبكة لتشكيل الرأي العام وتحقيق مفهوم المجتمع. خلصت المقالات الثلاث إلى أن التعليم العربي بصيغته الحالية عائق جوهري أمام أي حركة ديموقراطية وأن إحداث ثورة فيه مواز في الأهمية لإحداث ثورة في النظام السياسي ذاته.
لكن السؤال الجوهري هنا هو إذا كانت المدرسة العربية في مضمونها وسلوكها ضد الديموقراطية فأين اكتسب الشباب والشابات العرب هذا الوعي بالديموقراطية والذي قادهم لبدء التغيير وإذهال العالم؟ شخصيا أعتقد أن المدرسة التي تعلم فيها العربي الديموقراطية هي مدرسة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي ولذلك عدة أسباب شكلت في جوهرها المواصفات التي يجب أن تتوافر في التواصل الإنساني لكي يمكّن الأفراد والجماعات من التعرف على بعضهم بعضا وتشكيل وعي عام تجاه الواقع والحياة. مدرسة شبكات التواصل الاجتماعي وفرت للفرد العربي ربما لأول مرة في تاريخه فرصة للتواصل الحر. التواصل الذي ترتفع حريته يوما بعد يوم مع تواصل تطور تقنيات الاتصال الحديثة واستعصائها شيئا فشيئا على الرقابة.
أهم سمة لهذه المدرسة أن المتعلم يستطيع من خلالها ممارسة الاختيار والقرار. على عكس المدرسة التقليدية يستطيع مستخدم الإنترنت البحث واختيار الجماعة التي يرغب في التواصل معها وتبادل الخبرات والمعارف. الانتماء للجماعة هنا اختياري والطريق مفتوح للمغادرة وتغيير الانتماء. الفرد لديه القدرة أيضا أن يختار المجال الذي يحب أن يكرّس أغلب وقته فيه كما أن الحركة داخل هذه الشبكة والانتقال من مجال إلى مجال أو ربط المجالات والجماعات هو أمر في غاية السهولة بل يبدو أنه جوهر تصميم هذه الشبكات. هنا تتحقق المعادلة الحلم في التعليم : أن يتعلم الإنسان ما يريد، ما يتوافق مع احتياجاته وتجربته الحياتية. الأخطاء التي سترتكب هنا هي جزء من عملية التعليم ذاتها ولذا يمكن اليوم ملاحظة ارتفاع جودة استخدام الناس لتقنيات التواصل مقارنة بالماضي.
السمة الجوهرية الثانية والتي تعتبر أيضا حلما في التعليم التقليدي أن يتحول كل المشاركين في عملية التعليم إلى ممارسين لكل أدوار عملية التعلم والتعليم في ذات الوقت. أي أن يمارس المتعلم دور المعلّم ومنتج المعرفة في ذات الوقت وأن يتحول المعلم إلى متعلم. أي أن تشكل المجموعة شبكة تواصل تبادلية بعلاقات مفتوحة بين جميع الأطراف على عكس التعليم التقليدي الذي يمارس كل طرف مهمة واحدة في ظل معرفة مقدمة سلفا. في الإنترنت الفرد متعلم ومعلم ومنتج معرفة في ذات الوقت. في هذه الشبكة تتشكل إمكانية هائلة لشخصية إيجابية قادرة على التفكير واتخاذ القرار والتواصل مع الآخرين. شخصية منخرطة في تشكيل الواقع ومعتادة على المشاركة. في المقابل يبقى المتعلم في التعليم التقليدي في سياق سلبي عازل عن المشاركة ومحدود في سياقات محددة سلفا.
السمة الأخرى الجوهرية أن مدرسة شبكات التواصل الاجتماعي هي مدرسة الناس في مقابل المدرسة التقليدية التي هي مدرسة السلطة. لأول مرة في التاريخ يتمكن الأفراد من امتلاك وسائل إعلام شخصية. على مر التاريخ كانت وسائل الإعلام حكراً على السلطات في المجتمعات. حتى مع دخول القنوات الفضائية استمرت وسائل الإعلام في يد المقتدرين ماليا وسياسيا. مؤخرا فقط وهو ما يمثل تغييرا جوهرياً في التواصل الإنساني تمكن الأفراد العاديون من تملك وسائل إعلام تضاهي في تأثيرها شبكات الإعلام الكبرى. اليوم نشاهد يوميا أن مقطعا في اليوتيوب تم تصويره بجوال عادي أو تتويتة كتبت في عدد محدود من الكلمات تحدث تأثيرا هائلا في المجتمعات وتحظى بمصداقية عالية مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية التي وعى الناس انحيازاتها ومحدوديتها. هذا التحرر للمدرسة الجديدة يجعلها تقترب من الحلم القديم الذي يتمثل في تحقيق بيئة تعليمية تعكس حاجات الأفراد وتفاعلهم الطبيعي مع ما يحيط بهم دون التورط في لعب أيديولوجية تحرك الناس من بعيد وتورطهم في وعي زائف مضاد لمصالحهم الشخصية.
غالب البشر اليوم منخرطون في عملية تواصل وتعليم يومية عبر شبكات التواصل الاجتماعي ولا بد أن تنعكس تجربتهم هذه على الواقع التقليدي المحيط بهم. الفرد العربي يدخل في تواصل اجتماعي على مستوى معقول من الحرية يمارس من خلاله الاختيار ويشكل باستمرار هوية متسقة مع طبيعة هذا التواصل، هوية أكثر انفتاحا وأكثر فاعلية ووعيا. الفرد يشارك يوميا في عملية تعلّم وتعليم وإنتاج وتوزيع معرفة مما يجعل من هذه المعرفة معرفة حقيقية باعتبار أنها جزء طبيعي من تجربة الحياة الشخصية. المدرسة الحديثة هي المدرسة التي بدأ يتشكل فيها ومنها مفهوم المجتمع والرأي العام. المساحة التي تتشكل فيها إمكانية الإحساس بالآخر لا على أنه آخر منفصل بل على أنه شريك وجزء من الذات. مساحة تتشكل فيها الذات الجماعية من خلال تواصل ذوات فردية مستقلة ومنفتحة. المساحة الآمنة التي يعود من خلالها التواصل بعد طول قطيعة بفعل الاستبداد. اليوم ولأول مرة في التاريخ العربي يستطيع الأفراد، في مكان عام وبأمان، التواصل بدون إشراف. على طول التاريخ سيطرن السلطات على المجال العام وحولته إلى نقطة قطع وفصل بدلا من أن تكون نقطة ربط ووصل. مع المدرسة الحديثة المجال العام يتخلق من جديد ومن المهم التذكير أنه ليس مجالا افتراضيا بل حقيقيا. وحده التواصل الحر بين البشر هو الحقيقي.