بدلاً من أن يتعرض بعض المسؤولين للنقد والتقويم والمحاسبة لحماية مجتمعنا من حالة تكريس الفساد يأتي ليصفق لهم المنبطحون (المتزلفون والمتسلقون)، ويزينوا لهم مواقف التصلب والتعالي
انبطحَ، ينبطح، انبطاحًا، فهو مُنبطِح، والمصدر انبطاحٌ، ولا أقصد هُنا بالطبع التبطح المساوق لـالتسدح وهو التمدد والكسل وعدم الحراك؛ إنما المقصود من الانبطاح معنى مختلف تماما، فيقال ما كان له أن ينبطح بهذا الشكل: أي أن ينطرح على وجهه ذليلا، وهي على وزن انشكاح على قاعدة (كوميديا المشاغبين) بمعنى أن تتأثر بالأحداث ولا تؤثر فيها يعني تنكمش بالحرارة وتتبربر بالبرورة. الانبطاح ثقافة غريبة غادرتها الشعوب المتقدمة منذ زمن ليس ببعيد، ولكن في مجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج نجد أن مداها ما زال يتسع وينتشر يوماً بعد يوم، هي في منحاها العام ثقافة مأساوية قائمة على الإفراط والمبالغة في الكذب بشكل غير مستساغ، وأي نوع من الكذب؟ إنه الكذب الانبطاحي الذي استطاع بمهارة فائقة أن يتحول من كونه ثقافة إلى صناعة حرفية بامتياز، لذلك وأنت تقرأ في هذه الثقافة سريعاً ما يصيبك الدوار وربما الغثيان، والنتيجة أنك تفقد عقلك وإنسانيتك، وفي ذات الحال لا تلبث أن تكتشف أن قلع جذور تلك الصفات الانبطاحية من هؤلاء المنبطحين يعني ببساطة محوهم من الحياة بأكملها، فوجودهم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الثقافة، التي استطاعت بشكل بانورامي أن تتمظهر بأشكال متنوعة، فالموظف مثلاً ينبطح أمام رئيسه لينقل له الأحداث أولا بأول، المسؤولون في بعض الوزارات والمؤسسات ساعدوا على تكريس هذه الثقافة وتتجلى في دفاعهم المستميت عن أنفسهم وعن أخطاء موظفيهم، فهم المحقون دائماَ وأبداً، والمصيبون في كل مواقفهم وتصرفاتهم، لينمو لديهم الشعور بالتعالي والرفعة والتفوق تجاه من يعتقدون أنهم أقل شأناً ومكانة منهم، فيأنفون ويستثقلون الاعتراف بأخطائهم، ويمتلكون عقولا تبريرية بارعة جدا في التمويه والتزييف، وبالتالي هم الذين جعلوا من العقل مهزلة، ليتباهوا ويتفاخروا بما امتلكوه من رصانة التبرير، وبدلاً من أن يتعرض هؤلاء المسؤولون للنقد والتقويم والمحاسبة لحماية مجتمعنا بكافة شرائحه من حالة تكريس الفساد يأتي ليصفق لهم المنبطحون (المتزلفون والمتسلقون)، ويزينوا لهم مواقف التصلب والتعالي على الآخرين.
الثقافة الانبطاحية تتبدل أحوالها ببراعة بحسب الرغبة الهامورية، فموظف البنك ـ مثلاً ـ إذا قابله عميل غلبان تجد الموظف يعيش دور المواطن الأمين على وظيفته المتمسك بالأنظمة والقوانين، بل ويعض عليها بكل ضرس قاطع، أما إذا قابله هامور يصبح القانون في خبر (كان) ويتحول الموظف إلى انبطاحي مصاب بداء الكساح لا يستطيع الوقوف على قدميه، وفي مهزلة ثقافية أخرى تجد كاتباً مشهورا يُشار إليه بالبنان يُجيد فن المراوغة والتلون; وبالنتيجة إذا أردت البحث عنه لتشخيصه فكرياً ومعرفياً، لن تجده سوى محترف ومتفنن في التأصيل لانبطاحية واعية، ولأنه يعيش روح الإمعية التي هي أبعد ما تكون عن المثقف المستقل استطاع وببساطة أن يحول المثل الشعبي المعروف مع الخيل يا شقرا إلى مع الخيل يا انبطاحي.
هذه الشخصية المريضة تجتمع فيها الأضداد، شخصية نصف مثقف ونصف أمي، نصف عاقل ونصف جاهل، نصف عادل ونصف ظالم، نصف طائفي ونصف وسطي..، مستمرة في عرض قوائم الأنصاف بين من يلبس لبوس النزاهة والأمانة، وهو في ذات الحال من المفسدين الممارسين للغش والتدليس.. نعم إنهم مفسدون متبرقعون بالنزاهة.
ختاما أقول: الانبطاحية تُبنى على قاعدة اكذب ثم اكذب حتى تُصدق، هؤلاء المتلاعبون بالعقول بكل منهجية وإبداع يستحقون من الناحية الفنية كل إعجاب وإن كانوا من الناحية الأخلاقية يستحقون كل احتقار.