الموازنات التي تدفع للجامعات ضخمة، وتعد طفرة في التعليم العالي، ولكن الإشكالية ليست دائما في ندرة المال بل في مصارفه التي تحتاج إلى إعادة نظر وترتيب الأوليات، وجعل 'الإنسان' في مرتبة أولوية على الماديات
جاءت أرقام الموازنة في دولتنا السعودية لهذا العام مبشرة وكبيرة تدل على قوة ومتانة الاقتصاد الوطني، واشرأبت أعناق الناس جميعا يترقبون انعكاس هذه الموازنة على كافة جوانب المجتمع واحتياجات الإنسان، ولا شك أن الجميع من المسؤولين وجمهور الناس يسعون إلى أن تنعكس هذه الموازنة الكبيرة وتسهم في رقي جميع جوانب حياتهم وتنمية البلد حتى يتحصل له الرقي المطلوب..
ولا شك أن الاهتمام الكبير بالحياة المدنية، وتحقيق ضرورات الإنسان من المسكن والمطعم والصحة والدواء وكافة الخدمات التي تحقق رفاهية الناس وأمورهم الضرورية والحاجية جزء من الهم الذي تضطلع فيه كل الدول، وتقيس مستوى أدائها من خلال خلق الفرص الكثيرة وتوفير الوظائف وفرص العمل وتقليل نسبة البطالة بين الشباب، وتقليل مشكلات الاستهلاك، والضبط الإداري وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إلا أن جزءا من الهم الكبير الذي لا بد أن تتوجه إليه الأنظار بشكل رئيسي هو الاهتمام بالـ(إنسان)، وبناء عقله، وذلك لأن كل حركة تنموية لا تجعل الإنسان محور اهتمامها هي حركة ناقصة وفاشلة، فالله تعالى سخر كل شيء في الكون لخدمة الإنسان (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، ولكن الطغيان المادي قد حول الإنسان ليكون خادما للمادة قائما عليها، بدلا من أن تكون أداة في يده ترقيه إلى مصاف الكمال وسمو العقل وتحقيق العيش الكريم.
ولأن الاستثمار الحقيقي هو في عقول البشر بصفتها المرتكز الحقيقي لأي تنمية، كان من الضرورة أن تتجه حصة كبيرة من الميزانية إلى بناء الإنسان. ولقد كان جزءا من نجاح الغرب في نهضته المعاصرة توفير ما يحتاجه البشر من إمكانات للإبداع العقلي، والذي انعكس مباشرة على البعد الحضاري والتقنية والتصعيد والذي حقق لهم السيادة العالمية، والتقدم في الحضارة الكونية، بينما نجد أن العرب قد فرطوا في عقولهم، وأهملوها ولم يصنعوا لها المحاضن الملائمة للإبداع مما أدى إلى هجرتها خارج الحدود، فوجدوا من الغرب الفرصة الكافية والتي جعلتهم في مصاف العلماء المبرزين في جامعاتهم ومعاهدهم العلمية.
إن الجو الذي يصنع للعالم، والمخترع، والمبدع ويوفر له الحياة الكريمة التي تعفيه من اللهث وراء كسبه ورزقه هو الذي يجعله ينتج الحضارة والإبداع، وقديما قال الإمام الشافعي: (لو كلفت بصلة ما عرفت مسألة)، لأن العلم والإبداع يحتاجان إلى تفرغ ذهني وكد ومعامل ودعم وتشجيع وتحفيز، وجو حر ينطلق من خلاله إلى آفاق الإبداع، فإن انشغل الهم والبال في طلب ضروريات الحياة فإن هذا سوف ينعكس على مستوى الأداء والطموح.
إن الموازنات التي تدفع للجامعات والكليات ضخمة وكبيرة، وتعد طفرة في التعليم العالي، ولكن الإشكالية ليست دائما في ندرة المال بل في مصارفه التي تحتاج إلى إعادة نظر وترتيب الأوليات، وجعل الإنسان في مرتبة أولوية على الماديات والمباني والقضايا الشكلية، فإن المباني سوف تستهلك خلال مدة مقدرة تفقد قيمتها مع الزمن، ولكن الاستثمار في العقول ومخرجات التعليم وتطويره سوف ينتجان عوائد اقتصادية وثقافية وحضارية ويعيدان للإنسان مركزيته في الحضارة بدلا من العمارة والمباني التي تحتاج لاهتمام خاص بحيث تكون خادمة ومكملة لاحتياجات الإنسان وإبداعاته لا أن تكون محورية تطغى على المقصد الأساسي من العملية التنموية بشكل شامل وهو (الإنسان).
إن توجيه جزء من الموازنة لرعاية أهل الفكر والعلم من خلال خلق الأجواء لهم، ودعمهم بكل ما يحتاجونه أمر ضروري إن كنا نريد أن نرتقي ببلدنا، وقياس كل مصروفات الموازنة من خلال انعكاسها على بناء الإنسان يحقق المراقبة وتحديد الأهداف بدقة، ويبعث على التنافس الحميد للإبداع وتطوير الذات المنتجة، ويشعر الإنسان من خلاله بأنه محوري في عملية التنمية، وأن إبداعه له من يقدره ويدعمه، فترتفع نسبة التنافسية التي هي مقصد ومطلب شرعي وواقعي: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).