أكد الأمير خالد الفيصل رفضه الداعين إلى جمود المجتمع والانسحاب من العصر، كما هو رفضه لمن يحمل لافتات الخروج عن المألوف والمطالبة بالحرية المطلقة وركوب موجة الانسلاخ من قيم الإسلام

عندما يُذكر مديرو الجامعات السعودية يبرزُ أسم الأستاذ الدكتور محمد العقلاء مدير الجامعة الإسلامية الذي يعتبر أحد النماذج النادرة والمتميزة في الإدارة وعلى وجه الخصوص إدارة الجامعات. وهو أحد خريجي كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة. استطاع أن يربط علمه في الاقتصاد والإدارة بالاقتصاد الإسلامي، فحصل على ماجستير ودكتوراه في الاقتصاد الإسلامي من كلية الشريعة بجامعة أم القرى التي أصبح عميداً لها ثم وكيلاً لجامعة أم القرى، ومن ثم حمل مسؤولية إدارة الجامعة الإسلامية ذات الاسم العريق والتاريخ المجيد الذي يجير فضلها لمؤسسها الملك فيصل، رحمه الله.. الجامعة التي لا تغيب الشمس عن عالمها الإسلامي.
ورغم تاريخ وإنجاز هذه الجامعة إلا أنها ظلت سنوات مغلقة أبوابها على طلبتها وأساتذتها، مقتصرة في تخصصاتها على العلوم الشرعية لتخريج الدعاة والأئمة وأساتذة الشريعة والفقه والسنة للطلبة المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي. ولم نكن نعرف الكثير عن هذه الجامعة حتى فتح الدكتور محمد العقلاء أبوابها للعالم الداخلي والخارجي، وأضاء نورها لأبنائها وأبناء المجتمع، الذي حولها وربط نشاطها الفكري بالمجتمع السعودي والعربي والإسلامي، فكانت فرصة لنا أن نتعرف على هذا الصرح العملاق الذي يعمل بصمت وبالإمكانات المحدودة ليكوِّن جامعة إسلامية بالمفهوم العصري الحديث، تشمل جميع التخصصات الشرعية والعلمية والفقهية وخططا لإنشاء كليات علمية، منها كلية الطب والهندسة والحاسب الآلي. ولا أود أن أطيل بالشرح والتفصيل لجهود الأستاذ الدكتور العقلاء في مجال ربط الجامعة بمجتمع الفكر والثقافة من خلال دوره الثقافي المنفتح؛ إلا أنني لا أستطيع أن أتجاوز ملحمة الاعتدال والتي شارك فيها ما يقارب الألف شخص من طلاب وأساتذة وعلماء ومن أمراء ووزراء وشيوخ وكتاب ومفكرين وإعلاميين وأعضاء مجلس الشورى ومجالس المناطق وسيدات الفكر والإعلام والثقافة والعلم من سيدات المجتمع السعودي، قدموا من جميع أنحاء المملكة وتحملوا عناء السفر بالطائرة أو السيارة ليستمتعوا بمحاضرة الأمير خالد الفيصل. وكنت أحد هؤلاء الذي أصروا على الحضور رغم معاناة سفري بالسيارة، إلا أن ملحمة منهج الاعتدال التي أصر على تسميتها بهذا المسمى عوضاً عن محاضرة، لأنها أكبر وأهم من محاضرة؛ استطاع فيها الأمير خالد أن يقدم لنا خطاباً سياسياً يؤكد فيه التزاماً صريحاً للحكم ولحكام السعودية بالإسلام ديناً، وسنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام طريقاً لا ثاني له، وبالعدل والمساواة أساساً في التعامل وبالوسطية مبدءاً ثابتاً يعني الالتزام بالعدل الأقوم والحق الوسط بين الغلو والتنطع وبين التفريط والتقصير، مؤكداً رفضه الداعين إلى جمود المجتمع والقعود والانسحاب من العصر، كما هو رفضه لمن يحمل لافتات كسر القيود والخروج عن المألوف ويطالب بالحرية المطلقة ويركب موجة الانسلاخ من قيم الإسلام، ويعتمد نقل النموذج الغربي دون سبر جوهره وفلسفته. وشبه سموه هذا التيار بالأداة لغزوةٍ منظمةٍ من المتربصين بالإسلام والوطن تشجع هذا الخروج وتروج له، وتبالغ في تكريم أصحابه والرعاية لهم. وتشبيه سموه هذه المغريات بالفراشات الساعية إلى حتفها نحو شعاع حارق قمة في التشبيه الراقي لفعل يجذب المنبهرين بالنور الذي ينتهي بحرقهم.
أنكر توجه فكر أتباع الثورة الصناعية لفصل الدين عن الدولة، وهو أمر باطل لا يقبل به الشعب ولا قادته، فالدين الإسلامي هو الأساس للحكم والدولة، ويؤكد سموه أن الإسلام ليس دين تخلف وقعود وإنما هو دافع قوي للتقدم والتطور وحمل المقصرين في عملهم ودورهم وزر التقصير، وعليهم العمل لإصلاحه، وحذرهم بألا يجيروا مشاكلهم الذاتية طعناً في الدين، وأكد سموه أن العصر الإسلامي المزدهر قد قدم أول نظام عدلي إيجابي.. وقفات فكرية عصرية بلغة راقية متميزة في الإلقاء والعرض والتشبيه إذ يقول سموه إن الأفكار لا تنقل كالأحجار ولا تفرض فرضاً خارج موطنها دون احترام للقيم والخصوصيات المتباينة، لأن المنتج الفكري لا يخضع للمقاييس نفسها التي تطبق على المنتج المادي.
إن من أهم خطوات الملك عبدالعزيز في الاعتدال والتحديث والتطوير في بداية تأسيس المملكة العربية السعودية توحيد المنابر المذهبية في الحرم المكي، فكان أول إمام للحرم المكي في العهد السعودي هو شيخ شافعي ولم يتعصب لمشايخ الحنابلة. ومن أهم بنود منهج الاعتدال من أجل التطوير في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز ترحيبه في كلمته المشهورة إننا نرحب بعولمة التجارة وبعولمة الاستثمار، ولكننا نرفض عولمة الفكر الفاسد ونرفض عولمة الانحراف الذي يختفي تحت أسماء براقة، وهذا لا يعني الجمود في الحركة فصدورنا وبيوتنا مفتوحة لكل جديد مفيد ولكنها موصدة في وجه الرياح التي تحاول زعزعة معتقداتنا وخلخلة مجتمعاتنا.
من أهم وقفات الخطاب السياسي الذي قدمه الأمير خالد الفيصل في لقاء الاعتدال والوسطية في الحكم السعودي بالجامعة الإسلامية تأكيده على أن أهم وحدة عربية في التاريخ الحديث هي وحدة قبائل وهجر ومدن ومناطق المملكة في دولة واحدة، وحدها المؤسس، معتمداً على مبادئ أساسية، أهمها تحقيق العدل بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع محاكمها، ونشر الأمن بتأمين جميع وسائله وأسبابه للمواطن والمقيم والوافد، ونشر المعرفة بتوفير كافة وسائلها وآلياتها، وتمكين المرأة وتعظيم دورها كشريك فاعل في تنمية بلادها، والتوسع في نظام الانتخابات في المجالس المدنية في الشورى والمناطق والغرف التجارية والأندية الأدبية، ثم تعميم التنمية الشاملة والمستدامة لجميع أنحاء المملكة من خلال الخطط الخمسية المتتالية.
انتهى اللقاء والحوار الذي حرص الأمير الشاب المبدع عبدالعزيز بن ماجد أمير منطقة المدينة المنورة على حضوره، وتفاعل وشارك في الحوار معه، وهو أحد الذين استطاعوا أن يحدثوا نقلة حضارية في التنمية في منطقة المدينة المنورة، واستطاعت الجامعة الإسلامية بدعمه ومساندته أن تحقق إنجازات غير مسبوقة، وأن تضع نفسها في طريق أفضل الجامعات السعودية. وفي طريق عودتي بالسيارة إلى جدة ظللت أفكر بخطاب الأمير خالد الفيصل الذي جمع الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد بلغة راقية وبأسلوب حوار لا تهديد فيه ولا تشدد ولا تكفير ولا إقصاء للرأي الآخر، أثبت فيه أنه رجل فكر وأمير حوار وقائد مسلم ملتزم بعقيدته الإسلامية، ومفكر منفتح على العالم الحديث ولكن بنظرة عقلانية تستفيد من إيجابيات العولمة وتحارب سلبياتها.
هذه هي اللغة التي نريد أن نخاطب بها الأمة في الداخل والخارج.