نظام تصنيف المقاولين تم التحايل عليه على أرض الواقع، فقد يكون المشروع على سبيل المثال يتعلق بتخطيط ورصف الشوارع، ثم يتم قبول مقاول مصنف في قطاع المباني، بمعنى أن تكون الشركة مصنفة في مجال معين، والمشروع يتعلق بمجال آخر

ذكر أعضاء اللجنة الوطنية للمقاولين في مؤتمرهم الصحفي الذي عقد مؤخراً في مقر مجلس الغرف بالرياض، أن ما نسبته 90 % من المشاريع الحكومية المتعثرة في المملكة ليست بسبب المقاولين، مرجعين سبب تعثرها إلى عدم اكتمال الإجراءات الحكومية المتعلقة بها، وأن المشاريع بوضعها الحالي لن ينجزها أي مقاول في الموعد المحدد ولو كان من المريخ، وبهذا التصريح ألقى المقاولون باللائمة كلها على الجهات الحكومية والعوامل الخارجية الأخرى، متناسين بذلك المشاكل الداخلية التي يعاني منها قطاع المقاولات نفسه، والذي له دور أيضاً في تعثُّر المشاريع.
كنت قد تحدثت في عدة مقالات سابقة عن مشكلة تعثر المشاريع في الجهات الحكومية، والتي من أهم أسبابها سوء الإدارة وضعف الرقابة بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بحساب التكاليف المالية لهذه المشاريع.
وفي هذه المقالة سوف أتحدث عن مشكلة قطاع المقاولات في المملكة ودوره في تعثّر المشاريع، وبالتحديد الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة والتي لها تعاقدات ومشاريع مع كثير من الجهات الحكومية، علماً بأنه حتى الشركات الكبيرة بدأت في الأونة الأخيرة تحذو حذو الشركات المتوسطة والصغيرة في العديد من الممارسات والتي منها التعاقد مع العمالة غير الماهرة والمقيمة بشكل غير نظامي في المملكة وغير المدربة، والتعاقد من الباطن لشركات ضعيفة وغير مرخصة أيضاً في تنفيذ أعمالها ومشاريعها.
وتجدر الإشارة هنا- عندما نتحدث عن مشاكل قطاع المقاولات في المملكة والعوامل المسببة لها- إلى أن هذا لا يعني أن نعزل المسببات الأخرى عن بعضها البعض فالمشاكل معقّدة ومركبة وتتأثر بالبيئة والظروف المحيطة بها ويصعب التمييز بينها، ولعل أفضل ما يقال هنا هو مجرد تسليط الضوء على مشاكل رئيسية قد يكون لها تأثير مباشر على المشاكل الأخرى.
فقطاع المقاولات في المملكة يعاني من مشاكل كثيرة من أهمها في رأيي هو أن العديد من الشركات والمؤسسات تفتقر إلى العمل المؤسسي المنظّم، وبالتالي ليس لدى مثل هذه الشركات أية برامج أو نظم ومعلومات مالية وفنية وإدارية.
ونتيجةً لذلك لا تستطيع مثل هذه الشركات استقطاب الكوادر الفنية والإدارية المؤهلة، ولا تستطيع توفير الآلات والمعدات اللازمة، ناهيك عن وقوعها في أزمات مالية خانقة لأية مشكلة طارئة ولو كانت بسيطة.
فعلى سبيل المثال عندما لا يتبع المقاولون الأسس والنظم المحاسبية المالية فإنها تقع في مشاكل تمويلية لا حصر لها، فالبنوك لا تثق في مثل هذه الشركات وبالتالي تحجم عن تمويلها، وبمجرد عدم صرف مستخلصاتها من قبل الجهة الحكومية لأي سبب من الأسباب، لا تستطيع هذه الشركات دفع رواتب موظفيها وعمالها فضلاً عن عدم القدرة على شراء المواد اللازمة للمشروع، لتكون الحجة في النهاية عدم صرف المستحقات!، وعندها يتأخر أو يتعطل المشروع.
وحتى أكون منصفاً أكثر، فقد طالب أحد الخبراء في هذا المجال: بضوابط وتشريعات تتيح التمويل أمام المقاول، واستحداث مكتب يقوم بعملية الربط والتنسيق بين الوزارة صاحبة المشروع والمقاول، وتنظيم عملية التمويل، ومراقبة صرف التمويل على المشروع المعني، وليس في أوجه أخرى، ويكون المكتب مسؤولا أمام البنك وأمام المقاول، ومتابعة مستخلصات المقاول أولا بأول لتصرف في وقتها، ويضمن كل من البنك أو الجهة الممولة والمقاول الحقوق، وبما يعود بالفائدة على المقاولين.
ورغم أهمية هذا المقترح في حل مشكلة التمويل، إلا أنه سوف يواجه عقبات كثيرة في حال تطبيقه، لأنه كما ذكرت آنفاً العديد من الشركات ليس لديها نظم محاسبية سليمة وتفتقر إلى العمل المؤسسي المنظم.
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن الاستدلال بها على مشاكل قطاع المقاولات هي عدم وجود خبرات وعمالة كافية ومدربة، وذلك بسبب عدم وجود خطط وبرامج لتوظيف الكفاءات الوطنية واستقطاب الكوادر الفنية المؤهلة، لذا نجد كثيراً من الشركات تستعين بعمالة غير مدربة وغير نظامية، ونتيجة لذلك تكثر الأخطاء الفنية والهندسية في المشروع.
صحيح أن أعمال هذا القطاع تحتاج إلى عمالة جاهزة ومدربة مسبقاً، لأن مشاريعها وأعمالها في الغالب مؤقتة، كما لديها مشاكل في استقدام العمالة وتوظيف الكفاءات الوطنية؛ وذلك يعود إلى غياب المعايير وعدم تقدير الاحتياجات الفعلية، ولكن ما زلت أقول إن السبب الرئيسي في كل هذا يعود أيضاً إلى غياب العمل المؤسسي وغياب الخطط والبرامج، وخاصةً إذا علمنا أن كثيراً من الشركات تدخل في مشاريع تفوق بكثير قدراتها الفنية والمالية، والبعض منها يدخل في مشاريع عديدة معتمدين في ذلك على المقاولين من الباطن في التنفيذ.
هذا باختصار شديد لأبرز مشاكل قطاع المقاولات في المملكة، والتي تتمثل في غياب العمل المؤسسي للعديد من الشركات والمؤسسات، وقد يتساءل البعض كيف لا تعمل هذه الشركات على أساس العمل المؤسسي في ظل نظام تصنيف المقاولين؟ والذي يشترط العمل المؤسسي للمقاولين!، كما أن المواد (12، 16، 38) من اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات، تستبعد الشركات غير الخاضعة للتصنيف من المنافسة؟
وأقول: إن نظام تصنيف المقاولين تم التحايل عليه على أرض الواقع، فقد يكون المشروع على سبيل المثال يتعلق بتخطيط ورصف الشوارع، ثم يتم قبول مقاول مصنف في قطاع المباني، بمعنى أن تكون الشركة مصنفة في مجال معين، والمشروع يتعلق بمجال آخر أو بنسبة كبيرة منه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فهناك حاجة إلى مراجعة وتقييم تطبيق نظام تصنيف المقاولين ولائحته التنفيذية، سواء من قبل وزارة المالية أو ديوان المراقبة العامة، مما يستلزم التركيز على هذه النقطة بالذات لارتباطها المباشر بالعمل المؤسسي لقطاع المقاولات في المملكة، والذي كما رأينا يتعلق بكثير من المشاكل والصعوبات التي تواجه هذا القطاع، وعندئذ قد لا نحتاج إلى مقاولين من المريخ لتنفيذ المشاريع!