الأهمية الاستراتيجية للخليج موقعا وثروة، ليست ضمانة كافية لبقائه خارج التقلبات والتنافس بين قوى النفوذ العالمي. إن ذلك يقتضي رفض الارتهان لتقلبات السياسة الدولية. ينبغي أن نكون فاعلين أقوياء فيما يتعلق بقضايا منطقتنا
الخليج والعالم، هو العنوان الذي تصدر المؤتمر الذي عقد بالرياض، في 4- 5 من الشهر الجاري، والذي تكفل بعقده معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية السعودية، ومركز الخليج للأبحاث في أبوظبي. وتلبية لدعوة كريمة، تلقيتها من مدير معهد الدراسات الدبلوماسية، الدكتور عبدالكريم تشرفت بالمشاركة في أعمال هذا المؤتمر.
تناولت الجلسات مجموعة من المحاور المهمة، تناولت دور مجلس التعاون الخليجي في المتغيرات الدولية، وديناميكية الأمن الإقليمي. وتحولات القوى العالمية ودور القوى التقليدية. كما ركز المؤتمر، في محاوره، على تحولات القوى العالمية ودور القوى الصاعدة. وكرس المحوران الأخيران، الخامس والسادس لاستشراف الآفاق المستقبلية.
ورغم أهمية المحاور التي تناولها المؤتمر، سنكتفي في هذا الحديث، بسبب محدودية المساحة المتاحة، بالتركيز على الآفاق المستقبلية للخليج العربي، وتحديدا الوثيقة التي قدمها صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، والتي لم تكتف بتشخيص الواقع الخليجي، والمخاطر التي يواجهها، ولكنه طرح مجموعة من التوصيات العملية للخروج من المأزق الراهن.
تحدث الفيصل عن تأثيرات التحولات العالمية على مسار العلاقات الدولية. وأشار إلى أهمية استشراف ما تفرضه من تغيرات استراتيجية في كافة المستويات، وتقديم رؤى واقعية تساعد في ولوج باب المستقبل. فالتاريخ حركة مستمرة، والقراءة التي نقدمها الآن ربما لا تكون صالحة للمستقبل. ينبغي أن تأخذ القراءة الاستشرافية بعين الاعتبار المتغيرات الكونية والإقليمية والمحلية. وهي كما نشهدها الآن تشي بانتهاء الأحادية القطبية، وصعود قوى جديدة، بما يعني أننا أمام تحول في مفهوم القوة وعلاقاتها وأنماطها؛ مما يشي ببروز قطبية تعددية جديدة تتغير معها طبيعة السياسة الدولية والتفاعلات بين الأمم.
إن استقراء المستقبل من خلال ما هو متوفر من معطيات، يظهر انكشاف منطقتنا على مختلف الأصعدة. وذلك يعود لغياب الاستراتيجية الواقعية الخليجية التي تأخذ في الحسبان مختلف التحديات والمخاطر. وفي هذا السياق، يحذر الفيصل من الركون إلى الظروف التي سمحت بفترة طويلة من الاستقرار والنمو. ذلك لأن تغير الأحوال هو من سنن الحياة، والذين يتمكنون من النجاة هم القادرون على استشراف المتغيرات التي تجري من حولهم، والاستجابة باقتدار لهذه المتغيرات، والعبور إلى المستقبل بثقة واطمئنان.
إن الأهمية الاستراتيجية للخليج موقعا وثروة، ليست ضمانة كافية لبقائه خارج التقلبات والتنافس بين قوى النفوذ العالمي. إن ذلك يقتضي رفض الارتهان لتقلبات السياسة الدولية. ينبغي أن نكون فاعلين أقوياء فيما يتعلق بقضايا منطقتنا، وألا نسمح بفرض خيارات الآخرين علينا بحجة ضعف قدراتنا العسكرية، مما يعني ترسيخ تبعيتنا للغير. إن ذلك يتطلب العمل على تحقيق وحدتنا وتوحيد قراراتنا بما يعزز موقفنا. وعلينا تحويل الوعي بمثل هذه الحقيقة إلى فعل وحركة دؤوبة لا تتوقف حتى ندرك أهدافنا.
إن دول مجلس التعاون الخليجي، مطالبة بعد أكثر من ثلاثين عاما من تأسيس المجلس بإعادة التفكير في التكامل والتنسيق؛ والانتقال بالمجلس من وضعه الحالي، إلى بناء جيش خليجي موحد بقيادة واحدة.
إن إقامة شرق أوسط جديد خال من الأسلحة المحظورة هو الهدف الأمثل، لكن مختلف الجهود فشلت لإقناع إسرائيل بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. وإيران تعمل الآن على التسلح بنفس الأسلحة. إن فشل العالم في إقناع إسرائيل وإيران لتبني إخلاء منطقتنا من أسلحة الدمار الشامل، يفرض علينا النظر في جميع الخيارات المتاحة ومن ضمنها حيازتنا لتلك الأسلحة، لحماية أمننا ودرء المخاطر المحدقة بنا.
إن التحديات التي تواجه منطقتنا، تتطلب رؤية جديدة للسيادة الوطنية، وإن ما يجمعنا من وشائج يجعل أمن أي منا أمنا لنا جميعا.. وقد أكدت التجربة ذلك، وأثبتت أن أي تنازل عن جزء من عناصر سيادة أي دولة من دولنا لأخرى، هو في الواقع تعزيز لسيادتنا الجماعية. ولذلك فإن علينا أن لا نسمح للمنغصات الثانوية والثنائية أن تعيق التقدم في سبيل إنجاز مشاريعنا الكبرى. وعلينا الالتفات لأوضاعنا الداخلية، وإجراء ما تتطلبه المرحلة من إصلاحات على جميع الأصعدة لتحصين داخلنا؛ فإنه لن تكون هناك فاعلية خارجية دون داخل فاعل.
ذلك يتطلب بالتأكيد مراجعة الخطط التنموية ليكون المواطن محورها. وعلينا أيضا مراجعة خياراتنا الاقتصادية التي سمحت بابتعاد اقتصاداتنا عن الإبداع والابتكار، وما جره ذلك من آثار ظهرت في تركيبتنا السكانية ومستقبلها، وسمحت بأن نكون سوقا لعمالة العالم وأبناء بلداننا عاطلون عن العمل. إن تحسين مؤسساتنا السياسية والثقافية لتستجيب لمتطلبات التحولات الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا لم يعد خيارا لنا وإنما هو فرض علينا وإن مفهوم المواطنة بكافة معانيها هو أس للعلاقة التي تربط الدولة والمواطن.
دعا الفيصل لتأسيس جزيرة عربية واحدة، ومجلس شورى منتخب لدولة واحدة، وقوة عسكرية واحدة، واقتصاد وعملة واحدة، ووكالة فضاء وصناعة إلكترونية، وصناعة طائرات وسيارات، ومناهج تعليمية واحدة، وصناعة طاقة وبتروكيماويات واحدة، وأمثولة للعدالة والتعامل الإنساني واحدة.
تلك باختصار أهم المحاور التي تعرض لها خطاب صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل في مؤتمر الخليج والعالم. والخطاب كما أشرنا هو وثيقة تاريخية بالتأكيد رسمت الخطوط العريضة، لمقابلة التحديات والمخاطر التي تحدق بالخليج العربي، ببرنامج سياسي متكامل يتجه نحو الوحدة الخليجية. وهو بما حواه يستحق أن لا يمر علينا مرور الكرام، بل ينبغي أن يكون مقدمة لحوارات وندوات مكثفة، بين المثقفين والمفكرين والمهتمين بالشأن العام في دول مجلس التعاون الخليجي, وبشكل خاص ما يتعلق منه بالوحدة الخليجية، وتحقيق الإصلاح في الداخل، وقيام برلمان خليجي موحد منتخب، وتوفير السبل لتحقيق أمنها واستقرارها ونمائها، والدفاع عنها. إنه خطاب جدير بأكثر من قراءة وأكثر من تحليل، فعسى أن تكون لنا معه محطات قادمة بإذن الله تعالى.