هل بمقدور أحدنا أن يعيد ترتيب حياته، وما مرّ ـ بهذه الحياة ـ من تجارب حفرتْ فيها وتركتْ أثراً من الصعوبة محوه أو عزله في غرفة مظلمة؛ بعيداً عن العين وعن العاطفة.. من يضمن أنّ الباب الموصد سيظلّ محتفظا برعاية الأمانة؛ لا يهدّدها ضوءٌ ولا يخلع حجابَها ريحٌ.. أبيدِنا الاختيار وتوجيه بوصلةِ الذاكرة إلى ما يحسن بقاؤه أو الدفع به إلى هاوية النسيان؟
في ديوان الشاعر الكويتي علي حسين الفليلكاوي أنت أيضا.. وداعا نصٌّ قصير بعنوان حريق يعالج بشعريّة ونفاذ جماليّ مسألةَ النسيان، حيث التجربة العميقة التي تذهب إلى الداخل وتسكن الجسد جاريةً في ماء الروح. كيف لها أن تعلق في الأحشاء وتلتصق بالشرايين، وتستحيل سرّا يغيب حتّى عن صاحبه. لا يعرف متى يبغتُهُ فينفجر بحرائقه؛ لينتفضَ عمرٌ كامل ناهضاً من ركامه. هو عذابُ الذاكرة من ذلك المتربّص يقبع في مكانٍ ما والصّاعق تحت قبضته؛ يهمزُهُ متى أراد. لا نملك له قانوناً ولا نتوفّر على خارطة توقعات تهجس بقدومه. نظامُ الخفاء الذي يعزب عنّا ساعة ظهوره وتجليه:
(ننسى سريعا
ونسلم أجسادنا الرطبة
بيد عاطفة مرتبكة
وننفجر في أقرب جدار.
لا الهواء الذي تسلّل في الجهات
أخفانا معه
ولا السكون النائم في كهف أصواتنا
قال لنا: لا.
ظننا، ونحن نقطع الجسر على قبلةٍ عابرة
ونستعيد قطعَ أجسادنا الواحدة بعد الأخرى،
أنّ النسيانَ
بعد ما يشدّ بقبضته على شعر رؤوسنا
سيفلتنا نسيل كيفما انحدرَ الطريق.
وننسى
أنّ النسيان
ليس سيارة إطفاء
تحاصر حرائق الروح
كلما اشتعلتْ نبضاتُنا).
بين النسيان السريع وبين استحالة النسيان، ثمّة معادلة يتعذّر الإحاطة بها. ما ينتشر في الداخل وترسّخه جمرةُ الزمن غائرا؛ وَسْماً لا يندمل.. ربما تحجبه ـ لحظيّا ـ الضوضاء ويطغى عليه ـ وقتيّا ـ ما نظنّه فعلُ النسيان؛ ما نتوهمُهُ أن سنّة الحياة طوتْهُ إلى الأبد.. لكنه في لحظةِ سطوعٍ باهرة يندلع إلى الجلد، ويضرم نارَهُ في الحواس. كأننا لم نقطع الدربَ ولم نغادر موضع الطعنة.
التهلكة تدفع بقرنيها في الرئة، وهواء النسيان لن يغيث فيهبّ. عبثاً ترجّ الجرس، الشقاءُ أرضُك ـ أيها الشاعر ـ التي لن تبرحها.