جدل النظريات مستمر منذ عقود في دائرة الاهتمام ذاتها بالنسبة للمسلمين والمسيحيين واليهود
بين من يؤكد وجوده في السعودية ومن ينفي ذلك، يستمر الجدل حول تحديد موقع جبل الطور المقدس. ذلك الجبل الذي تلقى عنده سيدنا موسى - عليه السلام - ألواح التوراة، ربما يشكل الموقع الجغرافي الوحيد الذي يحمل دائرة الاهتمام والقدسية ذاتها لأتباع الديانات الثلاث، وهذا ما جعل محاولات تحديد موقعه عبر الأبحاث عملية مستمرة منذ عقود.
نظرية وجود الجبل في السعودية، وتحديداً جبل اللوز في منطقة مدين شمال غرب السعودية قادت المستكشف الغربي رونالد وايت إلى المغامرة في محاولة لإثبات ذلك، فيما يستعرض مع آخرين من المؤيدين للنظرية العديد من القرائن التي تتكئ في معظمها على النصوص المقدسة في الكتب الثلاثة، إضافة إلى بعض المكتشفات الأثرية.
وإذ تحاول نظرية مدين إثبات وجودها؛ يبرز صوت المعارضين لها من خلال استعراض تسلسل قصة النبي موسى، وكذلك التحليل اللغوي لمسمى الجبل، فيما لا يستبعد أحدهم وجود المؤامرة لدى أصحاب تلك النظرية، حيث يؤكد رئيس النادي الأدبي في تبوك الدكتور مسعد العطوي أن هدف العديد من الباحثين والمستشرقين هو الإثبات التاريخي للاستيطان اليهودي في المنطقة. أستاذ آثار الجزيرة العربية وتاريخها الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، أكد أن منطقة مدين وجبل اللوز تحديداً خضعت للعديد من أعمال التنقيب والحفريات الأثرية، وتمت دراسة وتحليل العديد من النقوش والآثار، في محاولة لإثبات أو نفي نظرية كونه الجبل المقدس.تفاصيل ص3
ربما يكون الحنين إلى الروحانية، والهروب من الواقع المادي، الدافع الأبرز للعديد من محاولات كشف غموض هذه الأحجية القديمة التي استعصت على الحل، لتبقى في عالم الغيبيات السرمدي. فكلما تطور الإنسان، وبلغت المدنية ذروتها، بات الحنين الوجداني أقوى للبحث عن الماضي، والبحث في تفاصيله القديمة.
نقش هنا، وآثار هناك؛ وكلها تستحث الخطى لمواصلة البحث عن هذه البقعة المقدسة من الأرض، لتقترب رائحة المكان أكثر، ثم تتوارى من جديد، في متوالية مستمرة منذ مئات السنين، لتبقى الأحجية كما هي: أين يقع الطور المقدس؟
جبل الطور أو الجبل المبارك أو جبل النبي موسى عليه السلام يقع في دائرة الاهتمام ذاتها بالنسبة للمسلمين والمسيحيين واليهود، بعضهم تحدث عن وجوده في منطقة سيناء بمصر، والبعض الآخر يقرر وجوده في فلسطين، وآخرون يرون أنه في منطقة مدين شمال غرب السعودية.
هذا الجبل الذي تلقى عنده سيدنا موسى ألواح التوراة كان محور العديد من النقاشات والأبحاث التي تحاول اكتشافه وتحديد موقعه، وكانت معظم تلك الأبحاث تعتمد في دلائلها على ما ورد بالكتب السماوية المقدسة، وهي تروي قصة موسى عليه السلام الذي خرج من مصر هرباً من بطش فرعون، واتجه إلى أرض مدين في الشمال الغربي للجزيرة العربية (160 كلم شمال غرب تبوك) حيث تزوج ابنة سيدنا شعيب عليه السلام وفق العديد من الروايات، ومكث هناك ما يقارب العشر سنوات، وفي طريق عودته إلى مصر، كلّمه الله تعالى وأمره بدعوة فرعون وقومه إلى عبادة الله.
ثم تنتقل قصة النبي موسى إلى الهروب من مصر، تلبية لأمر الله تعالى بأخذ بني إسرائيل والخروج منها، حيث خرج ومعه بنو إسرائيل بعد أن تجاوزوا البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وجيشه. عاش بنو إسرائيل بعد أن تجاوزوا البحر مع سيدنا موسى وأخيه هارون أربعين سنة في التيه بمنطقة محصورة لا يستطيعون الخروج منها، وهناك في تلك المنطقة، ترك سيدنا موسى بني إسرائيل أربعين ليلة وأخبرهم بأنه ذاهب إلى جبل الطور المبارك حيث تلقى ألواح التوراة.
نظرية مدين
قـادت فرضية وجود جبل الطـور في الجزء الشمالي الغربي من المملكة الكثير من الباحثين ومنهم النمساوي ألويس موسل Alois Musil والأميركي رونالد وايت Ronald Eldon Wyatt وغيرهما من المهتمين بالآثار لزيارة المنطقة في محاولة لإثبات نظرية وجوده في الجزء الشمالي الغربي من المملكة وتحديداً في أرض مدين، حيث قام النمساوي ألويس موسل بزيارة شمال الحجاز ومنطقة مدين عام 1910 كما قام الأميركي رونالد وايت بزيارة نفس المنطقة عام 1984.
يقول وايت إنه يعتقد بأن جبل أبو العجل بوادي اللوز هو جبل الطور، معتمداً في نظريته على نصوص وردت في العهد القديم والجديد، وكذلك الأبحاث التي قام بها في منطقة نويبع على خليج العقبة، وكذلك الآثار والنقوش التي وجدها بالقرب من جبل اللوز.
كما ذكر أستاذ الدراسات الشرقية بجامعة براغ إلويس موسل Alois Musil في كتابه شمال الحجاز 1 ما نصه لما فرّ بنو إسرائيل من مصر حاولوا أن ينجوا سريعاً من المنطقة التي يمتد إليها نفوذها السياسي، وكانت وجهتهم إلى منطقة تتوفر لهم فيها أسباب الأمن الذي ينشدونه كما يتوفر لهم فيها ما يحتاجون إليه من المطالب الضرورية من الطعام والمرعى (...) وقد كان موسى على علم بمنطقة تتوفر فيها جميع هذه الشروط، تلك هي أرض مدين التي كان قد لجأ إليها من قبل، والتي يقيم فيها حموه كاهن مدين؛ فيستطيع أن يلتمس في شخصه حامياً له ولقومه من بني إسرائيل، لذلك قاد موسى بني إسرائيل إلى أرض مدين مباشرة إلى جبل الرب.
أما الباحث في مجال الآثار سرحان صبيح البلوي، فيرى أن تسلسل قصة سيدنا موسى عليه السلام يجعل من فرضية اختياره لمدين ملجأ لبني إسرائيل فرضية منطقية، كونه يعرف هذه المنطقة ويضمن الأمن فيها، لأنه عاش فيها من قبل أثناء خروجه الأول من مصر، كما أن أحداث قصة سيدنا موسى تؤكد أن موقع جبل الطور يقع بالقرب من منطقة التيه وهي ذاتها المنطقة التي مات فيها موسى عليه السلام، ويؤكد ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي، مررت بموسى، وهو قائم يصلي في قبره، عند الكثيب الأحمر.
وكما هو معلوم، والحديث للبلوي، فإن طريق الإسراء المفترض من الحجاز إلى بيت المقدس لا يمر بمنطقة سيناء وهذا ما ينفي فرضية كون جبل الطور في منطقة سيناء، وأيضاً ما ورد في صحيح البخاري من رواية ابن حيان حول أن قبر موسى يقع في مدين بين المدينة والقدس.
وأضاف البلوي أن الأطروحات الغربية سواء لموسل أو وايت أو ريتشارد أو غيرهم تفتح لنا باب التساؤل والبحث ولسنا مجبرين على تبنيها، مع الاستفادة مما تأتي به من دلائل أو إشارات، داعياً الجامعات السعودية إلى تبني وتمويل رحلات بحث لمنطقة مدين والشمال الغربي من المملكة، وعدم الاكتفاء بما نشر من أبحاث أو تقارير قديمة.
نظرية فلسطين
من جهته، يقول أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية بنابلس في فلسطين الدكتور يحيى جبر: الطور في اللغات السامية تعني الجبل، وقد تُخص بالجبل الضخم الذي يكون فيه شجر، وطور نابلس مثال على ذلك، إذ تسكنه الطائفة السامرية إلى اليوم وتقدسه، ولهم فيه معابد ومواسم يمارسون فيها طقوسا خاصة، وهم يعتبرون أنفسهم أنهم هم اليهود حقا وليس اليهود الذين يحتلون فلسطين. وبالتالي؛ فإن شيوع اللفظ لدلالة عامة تقع على معنى الجبل الضخم، يسوّغ إطلاقه على غير جبل في شمال الجزيرة العربية (مدين، سيناء ، فلسطين) وغيرها.
ويضيف جبر: ما نرجحه هنا أن جبل الطور في فلسطين، والأرجح أنه جبل جرزيم الذي يقع إلى الجنوب من نابلس، يشهد بذلك ارتباط الطائفة السامرية به وتقديسه إلى اليوم. كما أن طور نابلس وطور القدس (طور سينين) يكثر فيهما الشجر قياسا بطور سيناء وطور مدين استنادا إلى الموقع الجغرافي.
ويضيف الدكتور جبر، أن جبل اللوز الذي يقع إلى الغرب من تبوك لا يمثل الدلالة اللغوية للمفردة طور وكذلك جبال حسمى وطور سيناء، كون هذه الجبال ليست مرتفعة ولا ضخمة قياسا بطور نابلس أو القدس، وإن نبت فيها الشجر.
كما أن في الحديث الشريف إشارة إلى أن الطور كان معروفاً لدى العرب إلى الشمال من المدينة المنورة، وأنه جبل تذرع لا جبل اللوز ولا العلندى فقد لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وقد جاء من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور؛ صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلتَ؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.
وجدير بالذكر، والحديث للدكتور يحيى جبر، أن استدلال بعض الباحثين بهذين الحديثين لا يقطع بأن المقصود هو جبل تذرع. ويظل احتمال أن يكون المقصود طور فلسطين أعلى وأرجح. أما الطور المذكور في قصة سيدنا موسى أرجح أنه هو طور سيناء نفسه، ولاسيما أن بني إسرائيل كانوا أعرابا وبُداة، فكيف وصلوا إلى القدس في وسط فلسطين تقريبا!، ولكن في تقدم بني إسرائيل لاحقا إلى أريحا والسامرة يرشح أن يكون المقصود هو جرزيم أي طور نابلس، كونه واقعا ضمن المنطقة التي زلزلت بحسب ما ورد في النص القرآني، وبحسب ما تفصح عنه مكونات السطح وجيولوجيا المنطقة.
ويختم الدكتور جبر بقوله: في العصر الإسلامي أنشأ الأمير أبو المنصور أنوشتكين مسجدا داخل الدير ومسجدا على قمة جبل الشريعة عام 500 هـ/ 1106م في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وقد حرص المسلمون على زيارته وزيارة الجبل أثناء رحلتهم للحج إلى مكة المكرمة، مما يعني أن المسلمين كرسوا ما درج عليه النصارى، وأسهموا في تثبيت الدلالة لطور سيناء.
نظرية المؤامرة
أما رئيس النادي الأدبي بتبوك الدكتور مسعد العطوي فيجد روح المؤامرة اليهودية حاضرة بقوة في بعض آراء المستشرقين والباحثين الذين زاروا المنطقة، وهذا ما جعلهم يحاولون إيجاد أي دلائل تشير إلى يهودية المنطقة.
يقول العطوي: الباحث النمساوي موسل كان هدف أبحاثه التي ذكر منها وجود جبل الطور في منطقة مدين هو الإثبات التاريخي للاستيطان اليهودي والنصراني، فهو يربط أسماء الطرق والقرى والمدن بالحوادث التاريخية في الكتب المقدسة اليهودية والنصرانية، بما يجعل الجزيرة العربية وطنا لليهود، مستبعداً أبناء إسماعيل بن إبراهيم من شمال الجزيرة، وأعاد الأسماء إلى مسميات توراتية، وجعل جبل الرب هو جبل اللوز الذي يقع جنوب مدين.
ويضيف الدكتور مسعد: ليس هناك جبال تنادد جبل الطور بين جبال مدين، وهو اسم معروف إلى الآن، والأولى أن الطور هناك في صحراء سيناء، وأما ما يقال عن جبل اللوز إنه هو جبل الطور فهذا غير صحيح، لأن جبل اللوز يقع في الشرق من مدين وطريق موسى إلى مصر هو إلى الغرب من مدين.
غياب الدليل
من جهته، ذكر أستاذ آثار الجزيرة العربية وتاريخها الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري أن وكالة الآثار التي كانت تتبع لوزارة التربية والتعليم أصدرت كتاباً بعنوان البدع.. تاريخها وآثارها حمل نتائج العديد من أعمال التنقيب والدراسة التي شملت منطقة مدين ومنطقة جبل اللوز وما حوله وحفرية موقع أبالعجل في جبل اللوز، وأعمال التنقيب في أنصاف الدوائر الحجرية بموقع أبالعجل ثم تحليل ودراسة الرسوم الصخرية، ودراسة قطع الرخام بجبل اللوز.
وبحسب الأنصاري، فقد أثبتت كافة الدراسات الأثرية أن منطقة البدع كانت مأهولة سكنيا منذ العصر الحجري القديم وحتى اليوم، ولم تؤيد النتائج والأدلة العلمية والأثرية من خلال هذا البحث العلمي ما يقال بأنها المنطقة التي خرج إليها سيدنا موسى عليه السلام وبنو إسرائيل.
وأكد الدكتور الأنصاري أن كتاب البدع يحمل الرد العلمي المدعم بنتائج الدراسات والبحوث الميدانية والصور على كل الأطروحات التي ادعت أن جبل اللوز هو جبل الطور.
وقال إن تلك النقوش التي يستدل بها البعض مثل نقش الأبقار، هي نقوش منتشرة في معظم أرجاء المملكة، ولا تعتبر دليلاً علمياً يستدل به لإثبات نظرية جبل الطور.
مغامرة واكتشاف
يتحدث رونالد وايت في مذكراته عن مجازفته في محاولة اكتشاف منطقة مدين ويقول: العثور على أدلة أثرية في هذه المنطقة أمر يستحق المخاطرة بالدخول إلى السعودية بدون إذن قانوني، بعد أن تعذر ذلك عن طريق السفارة، وقمت بالتسلل عبر الحدود الأردنية في 24 يناير 1984م وذهبت إلى موقع جبل اللوز حيث وجدت ما يؤكد أن جبل أبو العجل هو جبل الطور، ومن ( ذلك) أعمدة رخامية بيضاء ونقوش أعتقد أنها للعجل الذي عبده بنو إسرائيل، وكذلك الصخرة التي انفجرت منها عيون الماء. وعند عودتي إلى الحدود للخروج من السعودية تم اعتقالي ونقلت إلى السجن في حقل بتهمة التجسس.
ويضيف أنه غادر السعودية قبل أن يعود إليها ولكن بطريقة نظامية هذه المرة ليستكمل بحثه، حيث التقى بعدد من الأكاديميين السعوديين من جامعة الملك سعود، وجمع العديد من الأدلة التي تبرهن نظريته وتحدد معالم الجبل، إضافة إلى ما اكتشفه سابقاً في منطقة نويبع على خليج العقبة في مصر من عجلات تعود للفراعنة الذين غرقوا أثناء مطاردة موسى وبني إسرائيل.
كما تحدث وايت عن اكتشافه للتشكيل الجغرافي لأعماق البحر في منطقة العبور بين نويبع ومدين والتي تظهر ما يشبه الجسر بين الضفتين.