تضخم صورة الغرب في ذهن المتلقي، وما يشكله التفوق التكنولوجي لدى مجتمعاتنا النامية من شعور بالدونية؛ يفرضان الكثير من التهويمات بعيداً عن توخي الدقة في تحديد ملامح القادم المريب

تغلّبُ لون على ما عداه لا يعني مطلقاً غياب الألوان الأخرى قدر كمونها طور مناجاة فلسفية بعيدة عن الرؤية السطحية للظواهر.
ويوم تتماهى الألوان مع بعضها وتنعدم هيمنة اللون الواحد فإن شكلاً جديداً ـ غير ما كانته المفردات المستقلة عند انفصالها السابق ـ يكوّن إعادة صياغة المشهد بمجمله وفرض طور آخر من المتواليات الوجودية على الحياة.
تلتقي الينابيع الدافقة عند المصب لتصوغ معادلة القوة في مجرى النهر فتمتد مساحة الخصب على ضفافه القريبة والبعيدة وتنسى الكائنات المتصلة به ذكرياتها مع مصادر التدفق.. لكن أحداً لا يعترض طريقها متى قررت العودة إلى مجتمعاتها البدائية قريباً من ينبوع طفولتها كما لاشيء يقسر إرادتها نحو فساط لا يلائم فطرتها.
في الطبيعة ما يفوق هذا المثل تأكيداً على أهمية تلاقح الأضداد وتعدد الواحد وتمايز المختلف في ظل قواسم مشتركة واحدة.. تستطيع الطبيعة بثرائها الجم إلهام الناس طرائق غير معتادة بنواميسهم المعروف منها والمألوف.
تتنازل الألوان عن خصوصياتها في سبيل هدف مشترك، وحين تسطع لوحة القوس القزحي أمام الرؤية المباشرة يحقق الإتقان هدفه في الإقناع بجدوى مثل هذا النمط من الشراكات التي تنتج الحب والجمال، ولا تستهلكهما وقوداً لسباقات التفرد ومطامح الأثرة والاستحواذ.
الأبيض على نقائه وانفتاحه وشفافيته يتجاور مع الأحمر المتهور المندفع بمجازفاته، ويتوسطهما البنفسجي الثائر بعمق ونضج ومسؤولية ليذكرنا وضع مجموعة (دول الحياد وعدم الانحياز) خلال حقبة الحرب الباردة، أو لكأنه يلقي على مجتمعاتنا الغاضبة حزمة من الأغصان الخضراء أفلتتها تجربة غاندي أول الثورات السلمية في عوالمنا الحديثة..
تخرج الألوان القزحية صوب ساحات الربيع العربي بنشوة جيل أثقلته صراعات النخب السياسية وحاصرته أزمات نظم مستبدة! يسترعي الأمر اهتمام ومتابعة العالم بمؤسساته الرسمية ومنظماته المدنية ويلوح في الأفق ميلاد مكتمل الهيئة. العالم يرصد بشائر الأبيض السلمي وهي تمضي إلى أهدافها.. تنشد التغيير من أجل البناء وتروم المستقبل فكاكاً من محابس الماضي وحبائله المحبطة.
وفي أقصر الأوقات عمراً وأقل التضحيات كلفة كادت اللوحة القزحية تثبت حضورها الجميل واستحقاقها السلمي البديع، غير أن ضرورات البقاء في الساحات ربما اضطرتها لارتياد الأنفاق المظلمة والوقوع تحت طائلة المتدرج من (الأسود) بأعراضه وأمراضه. ثمة فقاعات زيتية تتوزع ثنايا التغيير.
أحداث الربيع العربي ما تزال متواصلة لكنها تزخر بمشاهد يستحيل ربطها بزعم الثورة، وتتعذر سبل الاستدلال بها على التغيير ما لم تكن في الحقيقة انحرافاً عن سبله الواضحة ومساراته الصحيحة وأهدافه العادلة. وما لم يكن في الحسبان عند جمهور الشباب العربي الثائر أن تسفر تضحياته في بعض الحالات عن عوسج يتمخطر بلؤم (شايلوك) في رواية تاجر البندقية لشكسبير.. تعجز الساحات عن استيعاب ما يحدث! التغيير بذات البصمات الوراثية للنظم والحكومات الاستبدادية.. اللصوص يستعينون على الحارس بسهره الطويل.
إن الحديث عن الألوان وخصائص كل منها وأثرها على النفس البشرية يستدعي نوعاً من الصفاء الذهني ويتطلب تنقية الأجواء من الشوائب المعيقة للرؤية. ومع هذا فغالبا ما كانت نظرتنا إليها مقيدة بحرز قناعاتنا المسبقة، وقديماً أدى ذلك إلى إنكار الحقيقة وإتاحتها لطبائع الجدل، شأن بني إسرائيل عندما استدرجهم العناد إلى خلاف حول لونها. ولهذا تغدو المناخات شرطاً لتحقق الرؤية التحليلية ماهية الألوان وقوة نفاذها وحجم حضورها في حياة الإنسان..
شغلت (الألوان) حيزاً لا بأس به من تباري الحضارات السبئية، البابلية، الإغريقية، الرومانية والفرعونية وبرزت فتنتها على ملامح (توت عنخ آمون) وتماثيل بوابة عشتار والتحقت ضمن عوامل الانقسام الكنسي (في روما وبيزنطة) وصاحبت محاكم التفتيش في إنجلترا وفرضت نفسها في عصر النهضة بما أبدعته مخيلة (ليوناردو دافنشي ورفائيل ومايكل أنجلو وتتيان).
ومع إطلالة الثورة الصناعية أواخر القرن التاسع عشر بدأت مرحلة البحث عن هوية اللون ومدارسه الانطباعية عند (جوخ وسيزان وجوجان وهنري والسريالية بريادة سلفادور وجورج شاقال) ولم يغب اللون يوماً عن ساحات الحروب ولا في أفياء السلم، فمنذ إطلالة الثورة الفرنسية غدت الألوان على واجهة أعلام الدول الوطنية وأصبحت المعبر عن الأيديولوجيا اليسارية ذات النجمة الحمراء. ولذلك ينالها ما ينال الناس من ظلم، ويطالها مقت الشعوب كلما هوى رسمها من متناول النظم الجائرة على غرار مأساة الأخضر من أعلاف عقيد الصحراء! هل كانت السياسة إلا مزيجاً متعاضداً ومتنافراً من ألوان تجمعها مصلحة وتفرقها أهواء.. هي كذلك أو بالأصح هكذا تبدو الرؤية الأولية في المتعامد القزحي على ضفاف الربيع العربي، الذي توشك مراسم الغرب استحضاره على جدارية شتاء قارس.
إن صح الأمر فسيكون الواقع مختلفاً وتفقد الألوان الطبيعية المؤثرة على مسار التغيير كينونتها الاعتيادية، نحن في مثل هذه الحالة لا نشاهد قوس قزح وإن حاولت السياسة (الدوجما) قول ذلك وإنما نمارس حالة اندهاش لصخب نفسي جرى إفراغه بواسطة الأصباغ المكثفة، ولسوف تكون محصلة التحول من اللون كتعبير وجودي (مؤنسن) تعكسه ساحات الثورة ضد مستبد قابل للإزاحة إلى صبغة سياسية بنمط جديد من هندسة التغيير، وصولاً نحو مستبد تتعذر إمكانات إزاحته أو بالأحرى تطول..
أظنني حاولت الإفصاح عن احتمالات مقلقة تجاوز الخداع البصري الذي تفعله الأضواء الملونة إلى دعوة معنيين عرباً ومسلمين بتدبر الأمر واستشراف نتائج استئثار لون بمخرجات الربيع العربي عبر مستحضرات تطبيع لا تخطئها نباهة متمعن محترف..
ما زال بمقدورنا التمييز بين ما يمثله قوس قزح من أمان مستقبلي مقارنة بفوضى الأصباغ وخطر الروشتات الوافدة على مكونات الهوية العربية المنفتحة.
إن تضخم صورة الغرب في ذهن المتلقي، وما يشكله التفوق التكنولوجي لدى مجتمعاتنا النامية من شعور بالدونية يفرضان الكثير من التهويمات بعيداً عن توخي الدقة في تحديد ملامح القادم المريب.
إننا في العادة ننسى الثمن الذي دفعناه ـ في سوالف أيامنا ـ جراء القبول بتقديرات الغرب وتحالفاته في المنطقة العربية وعبثيته مع الأصباغ المشبعة بالطلاسم باهظة الكلفة.. إن أمة تسحبها الأصباغ من قلب ساحات التغيير وتعتزم بناء المستقبل بالمواءمة مع أنقاض الماضي لهي حقاً أمة ضحكت..؟