المجتمعات التي لا تشجع على حرية التعبير هي بذاك المقدار الذي تزداد فيه ثقافة التشطيب والإقصاء، وحرية التعبير هي الحرية الرئيسية التي تربط شتى أنواع الحريات
شطَّبَ يشطِّب، تشطيبًا، فهو مُشطِّب، والمصدر شطب، ولا أقصد هنا بالطبع المعنى الجمالي للكلمة من تشطيبات المباني أو عمليات تشطيب العيون في الطب; إنما المقصود معنى مختلف تماماً، فيقال شطب الشيء أي بالغ في طمسه وإخفائه، ومعناها هنا حالة الضيق بالآخر والتبرم منه ومحوه لمجرد الاختلاف معه في الآراء والأفكار.
التشطيب ثقافة غادرتها الشعوب الغربية منذ زمن بعيد، ولكن في مجتمعاتنا العربية نجد أن مداها ما زال يتسع وينتشر يوماً بعد يوم، هي في منحاها العام ثقافة أحادية، فجماعة هذا التيار تشطب على تيار آخر، وأتباع هذا المذهب يشطبون على أتباع المذهب الآخر، والكاتب بشخطة قلم يتفنن في التشطيب على كاتب آخر، والزوج يشطب على زوجته، والمدير يشطب على الموظف، إضافة إلى أعمالنا الدرامية المليئة بالصفع والركل عند أول اختلاف، والكل يشطب على الكل باستخدام شتائم الكروان التي نستهلكها وإذا لم تسعفنا القواميس العربية بها – رغم وفرتها – استوردنا من اللغات الأخرى شتائمها.
السؤال الذي يُطرح الآن ما سبب نشوء هذه الثقافة في مجتمعاتنا العربية؟ السبب الرئيسي هو تقلص وتضييق حرية التعبير عن الرأي، فالمجتمعات التي لا تشجع على حرية التعبير هي بذاك المقدار الذي تزداد فيه ثقافة التشطيب والإقصاء، وحرية التعبير هي الحرية الرئيسية التي تربط شتى أنواع الحريات، كحرية التفكير وحرية الاعتقاد وحرية الإبداع وحرية الإعلام وحرية الصحافة.
المجتمعات المتحضرة مبدأها لا تنمية بلا حرية بحيث لا يمكن لمجتمع أن يتقدم على كافة الأصعدة إلا إذا توفرت له الحرية، والتجارب الناجحة للشعوب تؤكد على هذا التلاحم العضوي بين الحرية والتنمية، الاتحاد السوفيتي مثلا كان يُقال عنه في الماضي إن الشيوعية فيه ستبتلع كُل العالم ولكنها انهارت بسبب انعدام الحريات، وكذلك الحال بالنسبة لكوريا الشمالية الغارقة في الفقر بسبب انعدام الحريات، بينما كوريا الجنوبية متطورة مع توسع الحريات.
إن حرية التعبير كقيمة حقيقية تكاد تكون غائبة أو مغيبة في مجتمعاتنا العربية. فهي ذات مفهوم غير مكتمل انحصر معناه فقط في زاوية ضيقة في مقابل الرق، فالحُر في نظرنا هو الذي لا يبُاع ولا يشترى. وعندما فرضت العولمة نفسها على الحياة لتساهم في تقليص كوكب الأرض وتحويله إلى قرية صغيرة من خلال تقنيات الاتصال المتنوعة استطاعت أن تساهم في إيجاد متنفس للتعبير عن الأفكار ولكن: كيف ننظر للحريات في ظل هذه الثورة التكنولوجية؟ هناك نظرتان تتنازعان الذهنية العامة في التعاطي مع الحريات، يمكن تصنيفها إلى فريقين:
أولاً: فريقالضوابط: يؤمن هذا الفريق بعبارة لا حرية بلا ضوابط بمعنى أن الأصل لديهم هو في أنواع التقييد والرقابة على الحريات وعدم التعدي على الثوابت، هذا الفريق يظهر استياءه بوضوح من المشهد الحالي وما فيه من سجالات ساخنة، ونقد لاذع، ونزاعات، وحِدة في الطروحات، الأمر الذي أدخل الجميع إلى أتون الفوضى الهدامة، هذا الفلتان والانفلات في الحريات سيجر الناس إلى مشاكل وفتن بألوان الطيف تتساقط فيها الثوابت تباعاً.
ثانياً : فريق الحريات: يؤمن هذا الفريق بعبارة لا ضوابط في الحرية الأصل فيه للحريات، هُم يتساءلون هل يمكن أن نضع ضوابط لأن نسمع أو أن نُبصر؟ أما فيما يرتبط بالفوضى الحاصلة فهي فوضى مطلوبة ستتلوها قوانين وضوابط، كما حصل في الثورة الفرنسية بدأت بالفوضى وانتهت بسيادة القانون، أما نحن فركام الماضي لا يمكن محوه بين يوم وليلة، إنها عيوب المرحلة الانتقالية، إنهم يُقرون بأن حق الحرية هو الأصل، والقانون يأتي لحفظ كرامة الإنسان، إنهم يرون أن الفريق الأول لا يسير باتجاه الحريات بل باتجاه القمع والحجر على حرية التعبير. إنه أمر يدعو للغرابة مصطلحات متداخلة ما يراه المسؤول ضوابط يراه الحقوقي حجرا على الحريات، وما يراه الحقوقي حرية في التعبير يراه المسؤول فوضى.
إنني أتساءل: من ذا الذي يرسم الخط الفاصل بين الضوابط والقمع؟ من يمتلك تحديد تلك الضوابط؟ ما هي الثوابت التي نتفق عليها جميعا؟ يبدو أن المسار لا يزال طويلاً، وبين هذا وذاك تظل ثقافة التشطيب هي صاحبة الكلمة الأخيرة.