عندما نستذكر أسماء أعضاء اللجان المكلفة في بعض القضايا نجد أن الغالب الأعم من هؤلاء يمثلون أطرافا حكومية قد تقع تحت طائلة التقصير والاتهام. من الطبيعي أن يتجنب مثل هؤلاء الأعضاء إدانة أنفسهم أو دوائرهم

في كل مرة تحدث مصيبة في أي مكان في العالم وسواء أتى هذا الحدث أممياً أم داخلياً في قطر معين يأتي تشكيل لجنة تسمى لجنة تقصي الحقائق. يفترض في هذه اللجنة أن تقف على الحدث وأن تدرس مسببات وقوعه من كل الجوانب ثم تضع قرارها وتوصياتها. بعض هذه اللجان تحبس أنفاس العالم قبل أن يظهر التقرير نسبة إلى أهميته العالمية. الواقع أن من أهم العوامل التي ينبغي النظر إليها في اختيار أعضاء مثل هذه اللجان هو عامل الحيادية والنزاهة. هل سيكون أعضاء هذه اللجنة مستقلين تماماً عن أي مصالح متعارضة مع الحادث أو من هم قائمون عليه وقد يكون لتقصير أحدهم علاقة مباشرة بوقوعه. هل يتمتع سجل هذه الأسماء المنتقاة بالحيادية المشهود لها؟
هذه المقدمة الموجزة تستعرض بديهيات متعارف عليها عالمياً ولا تحتاج في الواقع الى إيضاح أو إسهاب في الشرح. يكفي أن نستذكر أن الرئيس السابق للولايات المتحدة جيمي كارتر قد نال شرف مثل هذه الأعمال وتميز بحياديته ونزاهته. هذا هو سبب اختياره للكثير من اللجان المشرفة على انتخابات أو استفتاءات تحدث في مناطق التوتر في العالم.
في المملكة لسنا في منأى عن وقوع الحوادث وبالتالي فإننا نضطر من وقت لآخر إلى تأسيس لجنة تقصي حقائق لتعاين حدثا ما وقع هنا أو هناك. في مدرسة مكة قبل عدة سنوات تم تأسيس لجنة لمعرفة ملابسات تلك الحادثة المؤلمة التي راح ضحيتها عشرات الفتيات والمعلمات بسبب وقوع حريق داخل تلك المدرسة وعدم تمكن من كان في الداخل من الخروج والهرب.. في أماكن عدة تم تأسيس لجان تقصي وحقائق لمعرفة الخلل والتقصير الذي وقع هنا أو هناك، آخر هذه اللجان كانت اللجنة التي أمر بتأسيسها الأمير سعود بن عبدالمحسن أمير منطقة حائل بعد حادث السير الذي أودى بحياة طالبات جامعة حائل على أحد الطرق البرية قبل أسبوعين.
الذي دفعني حقيقة إلى تناول هذا الموضوع هو تقرير لجنة حائل الذي خلص إلى أن سبب وقوع الكارثة كان السائق وحده. السائق بالطبع توفي مع مجموعة المتوفين الذين أقلتهم تلك الحافلة. حاولت أن أطلع في ثنايا ذلك التقرير على توصيات معينة هنا أو هناك فلم أجد غير الإشارة وباستحياء إلى وجود حفرتين في الطريق.. هذا يقودني إلى تساؤل بل عدة تساؤلات.. أين تقرير اللجنة عن صلاحية وسيلة النقل تلك؟ أين مسؤولية وزارة النقل وجامعة حائل عن هذا الاستهتار المتمثل في نقل الأرواح وبهذا العدد في حافلات لا تلتزم بأدنى معايير حافلات نقل الطلاب؟ أين المرور ومراقبة السرعة؟ أين وأين؟ وأخيراً هل سنستمر في السماح لكل من هب ودب أن يتولى مسألة نقل الطلاب والطالبات بأي عربة يختارها ويتصور أنها آمنة لنقل هذه الأعداد وبهذه الوتيرة المتكررة يومياً؟
لقد دأب البعض على التعاقد لنقل طالبات بعض المناطق البعيدة بأجور زهيدة كما يبدو، أو ربما بأجور مبالغ بها، لا أعلم، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن وسيلة النقل التي يستخدمها هذا المقاول تتنافس لا على الجودة بل على الرداءة والتهالك من شخص لآخر. بعضهم يستخدم ما يسمى صوالين ماركة جي إم سي وهذه عربات عائلية لم تصمم أبداً كوسيلة نقل عام. بعضهم يستخدم حافلات يابانية بيضاء صغيرة صممت أساساً للشحن أو لنقل العمالة من موقع إلى آخر داخل المدن.. لم تصمم مثل هذه العربات أبداً لنقل الطلاب إلى مسافات بعيدة وبشكل يومي. نحن نعرف أن نقل الطلاب في الدول المتقدمة يتم عبر حافلات صفراء موضوع في مقدمتها وفي خلفها عدد من الأنوار التحذيرية الصفراء والحمراء، الغرض من هذه الأنوار هو تحذير السائقين الآخرين في الطرق السريعة، وحتى داخل المدن بوجود حافلة وأرواح كثيرة بداخلها، كما أن السرعة المحددة لمثل هذه الحافلات مقننة بطريقة صارمة لا تقبل التفاوض أو التشاور.
ما ذكرته عن تقرير لجنة حائل عن تلك الحادثة يمكن إسقاطه على بعض الحوادث الأخرى. عندما نستذكر أسماء أعضاء اللجان المكلفة في تلك القضايا نجد أن الغالب الأعم من هؤلاء يمثلون أطرافا حكومية قد تقع تحت طائلة التقصير والاتهام. من الطبيعي أن يتجنب مثل هؤلاء الأعضاء إدانة أنفسهم أو دوائرهم.. في حادثة مكة كان الحديث الشائع يدور حول اتهام بعض الأفراد بمنع الفتيات من الخروج دون لبس العباءة، هناك اتهامات بعدم وجود معايير السلامة التي يتطلبها الدفاع المدني، لكن اللجنة التي تشكلت حينئذ ضمت من بين أعضائها أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف ومن الدفاع المدني.. في حائل حدث نفس الخلط، فمعظم أعضاء اللجنة المشكلة هم من المسؤولين الذين ترتبط إداراتهم ولو بطريقة غير مباشرة بمسؤولية ما حدث، ولهذا فمن الطبيعي أن تذهب الإدانة إلى السائق المتوفى. كان من المفترض ألا تضم مثل هذه اللجنة هذه الأسماء أبداً، لأنها في مكان المسؤول عن الكارثة وليس السائل.
أختتم بتنبيه الجهات الحكومية التي قد تتعرض إحدى منشآتها إلى أي ضرر أن تبحث في مسببات وقوع مثل هذه الكوارث عن طريق توظيف لجان أهلية مستقلة ومشهود لها بالنزاهة. هناك أفراد مخلصون ومستقلون يعملون في منشآت القطاع الخاص ولديهم خبرة ودراية في القيام بمثل هذه المسؤوليات من خلال مباشرتهم لمواقف سابقة. يجب أن نتذكر أن من مهام اللجان وضع التوصيات التي من شأن الأخذ بها تلافي أحداث مشابهة في المستقبل، وليس فقط إلقاء اللائمة على طرف وإقفال المحضر.