الشعوب العربية تختار هويتها الدينية ولا ضير في ذلك؛ بل هو الوضع الطبيعي لأمة إسلامية، لكن لا بد أن تتصالح هذه الشعوب مع منجزات الحداثة وتكون الديمقراطية ديمقراطية مبادئ وليست ديمقراطية إجراء أو وسيلة

يأخذ مفهوم الدولة في العالم العربي مع المتغيرات الحالية بُعداً جديداً هو بعد المفهوم الديمقراطي، ويأتي مفهوم الديمقراطية في مجتمعات ليست ديمقراطية، أو هي مجتمعات لم تمارس العمل الديمقراطي إلا في قضايا بسيطة لا تمس بنية الدولة نفسها. ومن المعلوم أن الخطابات الإسلامية هي التي فازت في بعض الدول وبعضها في طريقه للفوز كون هذه الخطابات هي الأكثر تأثيراً على بنية المجتمع العربي، وهذا شيء طبيعي ومتوقع كون الإسلام هو الهوية الجامعة، ولذلك نجحت الخطابات التي ترفع هذا الشعار رغم أنه قراءة من ضمن قراءات أخرى تقترب من مفهوم الدين الإسلامي أو تبتعد.
الديمقراطية التي تتجوّل في أكثر من دولة عربية وتضع رحالها ثم تنتقل من بلد إلى آخر مازالت جديدة على الوعي العربي. جديدة على مستوى الممارسة وجديدة على مستوى المبادئ التي قامت عليها، وعلى ذلك يمكن أن تكون هناك العديد من الأخطاء لسوء الفهم الذي ينتج مع التجارب الأولى. لا أعني الأخطاء في الممارسة وإنما أخطاء على مستوى البنية الديمقراطية التي لا تقوم أساساتها إلا عليها، وهي حرية الأفراد، فالفرد هو من يؤسس مفهوم الجماعة، وإن كان ينضوي تحتها أحيانا، لتعبر عن ذاته في مقابل ذوات أخرى، لذلك فإنني كثيراً ما كرّرت في المقالات السابقة على أهمية الفردانية في إطار الديمقراطية. حرية الفرد واستقلاليته الفكرية والسياسية هي التي يمكن أن تؤسس إلى ديمقراطية حقيقية، يمكن له أن يختار من ضمن خيارات متعددة مع بقاء حريته الشخصية كمنطقة خط أحمر لا يجوز التعدي عليها من قبل المجموع الإنساني الذي هو منتمٍ إليه بالفطرة أو بالاختيار والإرادة.
الفردانية والاختلاف والتعددية هي أساسات المفهوم الديمقراطي، بحيث يمكن أن يجد الإنسان إنسانيته في مفهوم المشاركة والتعايش في الاختلاف. يقول مارسيل غوشيه (سوف نعتمد عليه في هذا المقال) في كتابه (الدين في الديمقراطية): إن الحقل العام لا يقوم في أساسه إلا على ما يوظفه فيه الأفراد: أي حيادية قصوى يمكن أن تنتهي فيه إلى عدم ثباته. غير أن هؤلاء الأفراد هم بالضرورة مختلفون حول ما يجدر توظيفه فيه. بذلك تكتسب ضرورة العيش المشترك أهمية خاصة. في الوقت نفسه الذي تحظى فيه بتقدير رفيع الوظيفة المشتركة المتمثلة في إعداد وضمان شروط إمكانية هذا العيش المشترك... ص 101. ما يطرحه غوشيه هنا يهدف إلى تحديد أمرين مهمين: الأول: مشاركة الأفراد في الشؤون العامة بوصف الفرد نواة المجتمع. الثاني: ضمان الحقوق الفردية في المشاركة بحيث لا يتغلب فرد بحكم امتلاك الهيمنة أو السلطة في تحديد عيش الآخر، أي أن شرط قابلية اختلاف الآخر هو الخطوة الأولى لفكرة التعايش أو العيش المشترك، فمهما كانت الهويات التي يحملها أصحابها فإنها تبقى ضمن مفهوم المشاركة التي تَتَعزّز من خلال مفهوم المواطنة الذي يحقق لكل فرد من أفراد المجتمع العيش الكريم والحرية في ممارسة حياته الخاصة، بل ويُسمح له بالمطالبة بحقوقه الفردية دون التشكيك بمواطنيّته. هذه الضمانات أصيلة في مفهوم التعايش بحيث لا يتعدى أحد على حقوق الغير.
مفهوم الدولة الدينية لم يعد حاضرا في إطار الديمقراطية. فهي دولة حياد تجاه جميع الأطياف؛ فالدولة الحديثة أصبحت تضع الخيارات المتاحة أمام طاولة التصويت والإرادة الشعبية حتى الدولة الديمقراطية ذات التوجّه العلماني الصارم خفّفَت من علمانيتها لتضع الدين ضمن خيارات عديدة بعد أن كانت تلغي الدين من كافة جوانب الحياة. إنها دولة الحياد.
مع الديمقراطية الجديدة تحول الدين ليؤسس لدولة ديمقراطية هويتها دينية، وفي الدولة الديمقراطية ذات التوجه الديني نتحدّث عن مفهوم ديمقراطية دينية، بحيث لا يتم فرضه، وإنما يتحول إلى خيار شخصي وهذه من أهم القضايا التي تؤسس لها الديمقراطية. يقول غوشيه: إن نسبية الإيمان الخاصة هي النتاج المميز لعصرنا الحالي. إنها ثمرة تغلغل الروح الديمقراطية داخل فكرة الإيمان نفسها. وتحوّل العقائد إلى هويات دينية هو نتيجتها المباشرة. (المصدر نفسه. ص 119).
من الواضح تماماً أن الشعوب العربية تختار هويتها الدينية ولا ضير في ذلك؛ بل هو الوضع الطبيعي لأمة إسلامية، لكن لا بد أن تتصالح هذه الشعوب مع منجزات الحداثة وتكون الديمقراطية ديمقراطية مبادئ وليست ديمقراطية إجراء أو وسيلة.