المخطط الطائفي في العراق يسير بنجاح وفق أجندة محكمة وضعت بدهاء في مطابخ طهران، يتمثل في عدة مراحل تبدأ ببسط السلطة الكاملة على الحكم في العراق والدعوة إلى إعادة المركزية الشديدة بدوافع وطنية زائفة

السياسة المتبعة للحكومة العراقية التي يهيمن عليها التحالف الوطني الشيعي وممارساته اليومية تشير بوضوح وبما لا يدع مجالا للشك أو لسوق التأويلات أو التبريرات السياسية؛ إلى أنها غارقة في الوحل الطائفي حتى النخاع، على الرغم من ادعائها المستمر للوطنية والشراكة الوطنية والمحافظة على وحدة الأراضي العراقية ورعاية المصلحة العليا للوطن، ورفع شعارات مستهلكة من مخلفات النظام الدكتاتوري السابق، وبخاصة في الفترة التي تسنم فيها المالكي السلطة لولاية ثانية بالطريقة الملتوية المعروفة التي تمت بها، فقد وسعت الحكومة من تعاونها مع التيارات الأخرى السياسية الشيعية في المنطقة بشكل لم يسبق له مثيل، ودخلت في شراكة سياسية قوية معها في إطار منظومة سياسية بقيادة مباشرة من إيران، الهدف منها نشر الفكر الطائفي وتوسيع مجاله الحيوي، وثمة إشارات قوية تؤكد وتدعم هذا الزعم، ومن أوضحها؛ تغيير موقف الحكومة العراقية المفاجئ من النظام السوري، ووقوفها معه ضد الثورة الشعبية وإمداده بالأموال والنفط، بعد أن كانت تتذمر وتشتكي منه في المحافل الدولية وتتهمه بالوقوف وراء العمليات الإرهابية التي تستهدف أمنها الوطني ومن ثم خروجها عن الإجماع العربي وامتناعها عن التصويت في الجامعة العربية لفرض عقوبات على هذا النظام الفاشي، وكذلك تأييدها ودعمها اللامحدود للاحتجاجات الشيعية في البحرين واحتضانها لقادتها، كما كانت تؤيد وتساند ثورة الحوثيين وتحتضن قادتها في اليمن من قبل، وكذلك قيامها بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف التدريسيين وأساتذة الجامعات من المكون السني ـ فقط ـ بحجة مطاردة فلول حزب البعث، كحركة استباقية خوفا من التحضير لانقلابات ومؤامرات مزعومة يجري الإعداد لها بعد رحيل القوات الأميركية، مع أن نسبة الشيعة المنتمين لحزب البعث كانت أكبر من نسبة السنة فيه على مدى حكمه للعراق.. هذه الإشارات الطائفية القوية التي صدرت من حكومة التحالف الوطني، تلقفها المكون السني بكثير من الترقب والتوجس، لذلك تحرك بسرعة وقرر أن يحافظ على كيانه ويستقل في شؤونه الإدارية والاقتصادية بمنأى عن الهيمنة الحكومية الطائفية وسلطاتها المركزية التي يحاول التحالف الوطني إحياءها من جديد لغرض لا يخفى على أحد، وحاول أن يمارس حقوقه الدستورية من خلال إنشاء أقاليم شبه مستقلة عن السلطة المركزية، على غرار إقليم كردستان الذي برهن على جدارته وتمايزه الحضاري المعاشي والثقافي والأمني عن باقي الأجزاء الأخرى من العراق، وأثبت أن سياسة الأقاليم والإدارات الذاتية للمحافظات بعيدا عن تحكمات المركز وسياساته القمعية هي الطريقة الأنجع والأصوب لبقاء العراق موحدا ومستقرا ومواكبا للمجتمع البشري المتحضر، وأظهرت هذه التجربة الرائدة حقيقة أن معظم مشاكل العراق ومعاناته الطويلة والحواداث المؤلمة التي مرت به منذ تأسيسه من حروب ومعارك كثيرة لا تعد ولا تحصى ومقابر جماعية منتشرة في طول البلاد وعرضها، وقصف كيمياوي على المدن الآهلة بالسكان وعمليات الأنفال السيئة الصيت التي أزهقت أرواح أكثر من 182 ألف مواطن كردي في مدة لا تتجاوز أشهرا قليلة، كل هذه الخسائر الفادحة كانت بسبب إعطاء سلطة مركزية واسعة للشخصيات السياسية والحكومات العراقية المتعاقبة التي مارستها بصورة خاطئة، هذه السلطة اللامحدودة التي جلبت لأهل العراق البؤس والفقر وسوء العاقبة هي التي يحاول المالكي والقوى الشيعية السياسية المتنفذة في العراق أن تسترجعها وتعيد إليها مجدها الغابر بحجج وذرائع واهية لفرض مشاريعها الطائفية، وإخضاع المجتمعات العراقية إلى سياساتها التوسعية.
كان المخطط الطائفي يسير بنجاح وفق أجندة محكمة وضعت بدهاء في مطابخ طهران، يتمثل في عدة مراحل تبدأ المرحلة الأولى؛ ببسط السلطة الكاملة على الحكم في العراق والدعوة إلى إعادة المركزية الشديدة بدوافع وطنية زائفة ومن ثم يتم إخضاع المحافظات العراقية وبخاصة المحافظات السنية إلى سلطتهم المركزية القوية على شاكلة السلطة في إيران، والحلقة الأخيرة من المخطط تنتهي بمحاولة حثيثة لإعادة إقليم كردستان إلى الحظيرة المركزية التي هي حظيرتهم ووضعه ضمن مخططتهم التوسعي الواسع، وبذلك تتم لهم الانطلاقة الأولى نحو بسط نفوذهم على المنطقة.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف الاستراتيجي بذل التحالف الوطني بمختلف اتجاهاته السياسية ومشاربه الفكرية جهدا جبارا لاستهداف الإقليم الكردي ومنجزاته من خلال خرق الاتفاقات الموقعة والتعهدات المبرمة، وتعطيلهم لكثير من مواد الدستور الحيوية، وبخاصة تلك التي تتعلق بالأراضي المتنازع عليها، فظل يناور ويماطل ويعد ويخلف ويتعهد ويغدر ويفتعل المشاكل ويختلق الأزمات، ويلجأ إلى أتفه الأسباب لإحداث أزمة من لاشيء وتضخيمها بصورة غير معقولة، كأزمة الإعلام الكردية المرفوعة على المدن المتنازع عليها والتي ظلت ترفرف على هذه المناطق لسنوات دون أن تثير الـنخوة الوطنية الزائفة لدى التحالف الوطني الحاكم ويأمر بإنزالها بالقوة، ناهيك عن المشاكل الأخرى العالقة، كمسألة النفط والغاز وقضية الـالبيشمركة والمادة 140 التي تعالج قضية الأراضي المتنازع عليها وغيرها من المشاكل السياسية والقانونية المزمنة التي باستطاعة أي لجان متخصصة أن تضع لها حلولا مناسبة في غضون أيام أو أسابيع لو أعطيت لها الصلاحية الكاملة، ولكن إصرار التحالف الوطني على إبقاء هذه المشاكل من دون حل، أثار دهشة المراقبين السياسيين حول جدوى هذا التصرف الغريب..
من المرجح أن أطرافا في التحالف الوطني الحاكم ـ إن لم يكن كل التحالف ـ لهم مصلحة ودوافع سياسية في إبقاء العراق في دوامة القلاقل والأزمات وعن عدم خروجه منها أبدا، وهذه المصالح والدوافع تدخل ضمن المخطط التوسعي الطائفي الجاري في المنطقة.. إنه احتمال كبير تؤكده الوقائع والأدلة!