نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في أواخر فبراير تقريراً أعده الباحث مايكل نايتس حول احتمال فرض منطقة جوية على ليبيا والدروس التي يُمكن الاستفادة منها من تجارب سابقة في هذا المجال.
يقول التقرير إن فرض منطقة لحظر الطيران شمال العراق عام 1991 ساعد على إيجاد ملاذ آمن للأكراد العراقيين. وفي عام 1992، أقيمت مناطق جديدة لحظر الطيران وقيادة المركبات في جنوب العراق والبلقان بتفويض من الأمم المتحدة لحماية المدنيين من قمع الحكومات. ونظراً للتطورات الراهنة في ليبيا، فمن الطبيعي التفكير في استخدام هذه الخيارات مرة أخرى. غير أن التاريخ يوضِّح أن مناطق الحظر هي عمليات تتطلب براعة على نحو خاص. وإذا لم يتم إعدادها على النحو الأمثل فإنها يُمكن أن تكون أسوأ مما لو لم تحدث، مما يشير إلى الضعف بدلاً من الحسم، بينما يتم في الوقت نفسه توفير القليل من القيمة الوقائية الحقيقية للمدنيين.
حالات النجاح والفشل السابقة
خلال الانتفاضة العراقية التي أعقبت حرب الخليج عام 1991، فقد نظام صدام حسين لفترة وجيزة السيطرة على 14 محافظة من محافظات البلاد الـ 18. وعلى الرغم من أن اتفاقية وقف إطلاق النار بين بغداد وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حددت بقاء جميع الطائرات العراقية ذات الأجنحة الثابتة على الأرض، إلا أنه تم استثناء المروحيات، وهو ما ثبَّت الأهمية الحاسمة لجهود النظام لسحق الانتفاضة واستعادة سيطرته على تلك المحافظات. ولو قام التحالف بفرض حظر على عمليات المروحيات ووضع قيود على التحركات واسعة النطاق للقوات البرية لربما كان من شأن ذلك أن يُسقط النظام في ذلك الوقت.
وفي 5 أبريل 1991، عمل العديد من شركاء التحالف من أجل المصادقة على قرار مجلس الأمن رقم 688، الذي طالب بأن تنهي بغداد قمعها للأكراد، وبدأت عملية إغاثة دولية في كردستان العراقية. وقد ضمن أيضاً منطقة حظر طيران بقيادة الولايات المتحدة بحيث تغطي جميع الأصول الجوية العراقية (سواء ذات الأجنحة الثابتة أو الدوَّارة) فوق خط عرض 36 [شمالاً]، بالإضافة إلى ضمان منطقة عزل لردع أو تقليل الغارات البرية أو الهجمات المدفعية على الملاذات الكردية الآمنة. وتحت مسمى عملية توفير الراحة، لم تشمل المهمة قوات الحلفاء الجوية فحسب، بل أيضاً نشر القوات البرية الأميركية في شمال العراق لمدة أربعة أشهر، وكذلك وجود القوات الخاصة فيما بعد. أسفرت العملية عن انسحاب القوات العراقية وراء خط تحصني في أكتوبر 1991.
ولم تحدث الجهود المقابلة لتغطية جنوب العراق حتى 26 أغسطس 1992، عندما استخدم التحالف القرار رقم 688 للإعلان عن منطقة حظر طيران تغطي جميع الأصول الجوية العراقية تحت خط عرض 33 جنوباً. وقد كان العامل المحرك وراء ذلك القرار هو استئناف صدّام للهجمات ضد القرى الشيعية مستخدماً طائرات ذات أجنحة ثابتة. غير أن منطقة الحظر لم تحم أبداً المدنيين في الجنوب بصورة حقيقية، لأن القوات البرية للنظام كانت لا تزال قادرة على استخدام المدفعية والوسائل الأخرى. وكما أخبر أحد الشيعة العراقيين مجلة تايم الأميركية في 29 مارس 1993، عندما رأينا طائرات التحالف تتجاهل الرشاشات التي كانت تقتلنا وتضرب فقط الصواريخ التي هددت طائراتهم في العام الماضي، أدركنا أنه قد تم التخلي عنا.
وفي 15 أكتوبر 1994، فرض قرار مجلس الأمن رقم 949 منطقة حظر قيادة المركبات التي تمنع التعزيزات العسكرية العراقية جنوب خط العرض 33. كان ذلك استجابة لتهديد صدّام بإعادة غزو الكويت، وليس آلية لحماية المدنيين العراقيين. وبالمثل، فإن عمليات حظر الطيران التي فُرضت في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 و1995، بذلت قصارى الجهد لحماية المدنيين ضد أعمال القمع، وعملت في المقام الأول كوسيلة لإظهار العزم وبناء إجماع في الرأي نحو القيام بعمليات عسكرية مستقبلية.
قيود على حظر الطيران
قد يبدو نجاح منطقة حظر الطيران فوق شمال العراق محفزاً على اتباع النهج نفسه مع الحالات الراهنة مثل ليبيا، التي ربما لا يزال نظامها المترنح قادراً على الهجوم على جيوب التمرد وإحداث معاناة إنسانية هائلة. ورغم ذلك، فإن الاختلافات بين العراق عام 1991 وليبيا اليوم واضحة.
أولاً، كان نظام صدام قد خاض للتو حرباً كبرى مع القوات التي تقودها الولايات المتحدة، بينما كان التقارب هو ركيزة العلاقات الأميركية الليبية الأخيرة. وعلاوة على ذلك، عندما أقيمت منطقة حظر الطيران في شمال العراق، كانت القوات العسكرية الأميركية في الجنوب لا تزال تحتل ما يقرب من ثُمُن الأراضي العراقية. كما أن إقامة ملاذات كُردية آمنة تطلبت المزيد من نشر قوات برية أميركية كبيرة لردع غارات النظام العراقي. ولكن ربما تكون عمليات نشر برية مشابهة في ليبيا غير مطروحة على الطاولة. والأهم من ذلك، كان باستطاعة الولايات المتحدة الاعتماد على قرارات الأمم المتحدة التي صيغت بقوة لدعم أفعالها في عام 1991، بينما لا توجد مثل هذه القرارات اليوم.
وعموماً، فإن عدواً شرساً - مثل صدّام وربما نظام القذافي- سوف يختبر بانتظام قواعد الاشتباك، وربما تحتاج القوة الدولية إلى استخدام القوة بشكل غير متناسب لردع الأعمال المحظورة، بما في ذلك الهجمات على المدنيين وقوات التمرد. إن أية قواعد للاشتباك، خاصة تلك التي تنظم مناطق حظر قيادة المركبات، قد تكون عُرضة لتصعيد غير منضبط، مما يجر القوة الدولية إلى القيام بعمليات عسكرية أكبر من تلك التي كان يُقصد منها في البداية. كما أن الأضرار الجانبية في صفوف المدنيين والقوات الصديقة هي دائماً ممكنة كما حدث في 14 أبريل 1994، عندما دمرت طائرة أميركية مروحيتين أميركيتين في منطقة حظر الطيران في شمال العراق، أدت إلى مقتل 26 من أفراد التحالف والعراقيين.
دلالات للسياسة الأميركية
يبدو أن الوضع العراقي في عام 1991 يشير إلى الفائدة المحتملة في مناطق حظر الطيران وقيادة السيارات في ليبيا اليوم. فقبل 20 عاماً ربما كانت مناطق من هذا القبيل قد رجَّحت كفة ميزان الانتفاضة العراقية، وأسقطت نظاماً لا يحظى بشعبية، ومنعت معاناة كبيرة، وكسبت الامتنان العراقي تجاه الولايات المتحدة. وفي حالة كردستان العراقية، من الواضح أن مناطق العزل البرية والجوية الغربية قد خففت وقوع كارثة إنسانية.
لكن التاريخ يبيَّن أيضاً أن فرض مناطق حظر طيران هو منحدر زلق. فمن السهل بدء مثل هذه المهام لكن من الصعب جداً إنهاؤها. فإذا تم إنشاء منطقة في ليبيا لحماية أحد جيوب التمرد وصمد نظام القذافي في مواجهة الثوار، فإن الولايات المتحدة ستحتاج إلى أن تكون حذرة بحيث لا ترث حماية مفتوحة الأجل لدولة صغيرة جديدة.
وتقدم مناطق حظر الطيران في التسعينات من القرن الماضي مجموعة من الدروس العملية للمخططين الذين يوازنون بين مزايا ومساوئ فرض مثل هذه العمليات اليوم:
• يجب الحصول على تفويض واضح من قبل مجلس الأمن الدولي، الذي قدَّم الأساس لمناطق حظر طيران سابقة.
• يجب أن يكون تفويض مناطق حظر الطيران وقيادة المركبات واضحاً قدر الإمكان، وهو منع التحرك واستخدام جميع القوات العسكرية التي يمكن إدراكها ضمن مناطق محددة جغرافياً، ويجب عدم استثناء أية أشكال من الأصول سواء ذات الأجنحة الثابتة أو المروحيات، ولا المدفعية.
• السعي إلى الحصول على قرار من قبل الأمم المتحدة يتطلب التجديد في غضون مهلة زمنية محددة حتى لا تكون المهلة مفتوحة.
ويختم التقرير قائلاً إنه إذا قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها السعي إلى فرض مناطق حظر في ليبيا، فبإمكان هذه الدروس وغيرها أن تزيد من فرصة قابلية الخيارات العسكرية على توفير وسائل معقولة وقابلة للضبط لحماية المدنيين من القمع.