تمنينا ألا تأكل الثورات أبناءها، وأن تكون الثورات بيضاء لا تكدرها الدماء، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، والعرب قالوا إن الأمور لا تدرك بالتشهي ولا بالتمني، والتاريخ لا يداهن ولا يجامل، هناك سنن كونية ونواميس حين يسير عليها الناس ينجون وحين يسيرون عكسها يضطربون، والثورة-أي ثورة- تعتريها مثبطات وعوائق قد تهزم أهدافها وتذهب بها في غياهب الفشل، ومصر بكل ما يجري فيها الآن إنما تقع في عوائق وتحديات خطيرة للغاية.
من بين عوائق أي ثورة استمرار لهيب الحماس، لا شك أن الثورة المصرية بدأت بحماسٍ لاهب، امتلأت بالأناشيد والشعارات، وبالفنانين الذين يسهرون ليلاً مع أدواتهم الموسيقية وهم ينشدون الأحلام، ويملؤون أسماع الناس بالأمجاد والمثاليات، هذا الفعل هو نشاط ثوري تعيشه معظم الثورات في العالم، لكن البعض لم ينج من حالة إدمان هذا اللهيب، فهو لا يزال في قمة الحماس. نسي أن مصر لا بد أن تستيقظ وأن تبدأ الشغل، فهي بالنهاية مثل الدول الأخرى فيها أفواه تبحث عن الرزق وسواعد مخلصة ودكاكين وشوارع، فيها حياة يجب أن تدار، فالعالم ليس كله ميدان تحرير وأغنية وعلم ويافطة! هناك مكائن التطور لا بد أن تبدأ.
ومن بين العوائق أيضاً نظرية الحل في الميدان، مشكلة أن تكون هذه النظرية هي الفيصل لأي مطالبة. الثورات يجب أن تبدأ مراحل أخرى، فالحياة ليست كلها تظاهرات. بتحقق المطلب الرئيسي للثوار برحيل حسني مبارك كان يمكن لمصر أن تبدأ التطوير من المؤسسات والمكاتب لا من خلال ميدان التحرير، كلما عنّ لأحدٍ أي طلب بادر إلى ميدان التحرير راكضاً! هذه مشكلة حقيقية، الغريب أن البعض يرى في التحرك الأخير استكمالاً للثورة كما يكتب عبدالباري عطوان الذي يقول في مقالته قبل أمس: شباب مصر بكل ألوان طيفه السياسي استعاد زمام المبادرة، وبات على موعد لاستكمال ثورته، وسيثبت عمليا، مثلما أثبت مطلع هذا العام، أنه على درجة عالية من الوعي، مثلما سيثبت في الوقت نفسه لكل الذين حاولوا أن يستغفلوه ويسرقوا ثورته، أنهم هم المغفلون!
مثل هذه الرؤية هي التي تدمر الواقع ونموه واستمرارية الحياة بمصر.
قال أبو عبدالله غفر الله له: بالتأكيد بعض المعضلات التي ذكرتها استمرار لهيب الحماس ونظرية الحل في الميدان من أخطر العوائق التي يمكن أن تأتي على ثورة مصر، فهل يعي المجتمع المصري خطورة ما يحيط به اليوم؟!