في مثل هذه الفواجع التي تنزل بالوطن حري بنا أن نتكاتف من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والمطالبة بمحاسبة المهمل بشدة، فصغيراتنا في جدة وشاباتنا في حائل خرجن لطلب العلم تداعب خيالهن أحلام المستقبل
ياله من أسبوع محمل بالأنباء السيئة، فقد نعى الوطن أربع عشرة فراشة فاضت أرواحهن لبارئها، فيما لا تزال بعض الفراشات الأخرى تحت رحمة الله. البداية من جدة، فقد شب حريق في مدرسة براعم الوطن الأهلية للبنات متسبباً بمقتل معلمتين وإصابة أكثر من أربعين طالبة. وقبل أن نفيق من الصدمة كانت وسائل الإعلام تحملنا إلى حائل، حيث حصد حادث تصادم سيارة بحافلة نقل جامعي أرواح اثنتي عشرة طالبة، بالإضافة إلى السائقين، فأعاد للأذهان مسلسل حوادث الطرق التي راحت ضحيتها عشرات المعلمات العاملات في القرى النائية والمتوالية منذ ما يقارب العقدين. فعلى من تقع مسؤولية تكرارهذه المآسي؟
لنبدأ حادثة جدة، هذا الحريق ليس الأول، ففي عام 1422 وقع حريق في المتوسطة 31 بحي الهنداوية بمكة، ونتج عنه مقتل أربع عشرة طالبة وإصابة حوالي الخمسين! كانت هذه مدرسة حكومية مكتظة بطالباتها وتقع في حي شعبي، كان المبنى المدرسي قديماً ووسائل السلامة معدومة، وتسبب الدخان والتدافع في هذه الوفيات والإصابات. ودار لغط كبير وقتها حول أسباب الكارثة، فهناك غياب تام لكل ما له علاقة بالأمن والسلامة، فلا المبنى مجهز، ولا الطالبات والمعلمات مدربات. كما اُتهم جهاز الدفاع المدني بالبطء في الاستجابة وعدم الفاعلية في الموقع، وألقى أفراد من هذا الجهاز باللائمة في ذلك على جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن التقرير الذي صدر من لجنة التحقيق برأ الهيئة. وكنتيجة مباشرة تم حل الرئاسة العامة لتعليم البنات في إجراء اعتبر تحميلاً للرئاسة لمسؤوليتها عما حدث في أحد المرافق التعليمية التي تشرف عليها.
اليوم تكررت المأساة رغم اختلاف الزمان والمكان، فهذه مدرسة خاصة في حي جيد من أحياء جدة، تبدو مبانيها من الصور بأنها جيدة، أو على الأقل أفضل من مئات المدارس الأخرى التي لو وقع فيها هذا الحادث لكانت الخسائر أشد فداحة، فالمبنى ليس قديماً ولا مستأجراً، والفصول ليست مكتظة بطالباتها، وتتوافر في المدرسة طفايات الحريق، كما كان هناك تدريب على خطة طواريء كما أكدت الطالبة رزان نجار(12 سنة) لـالعربية نت. فلماذا إذاً تكررت المأساة؟
لأن أسباب القصورالحقيقية لم تعالج سلفاً، فالقضية ليست في حل جهاز إدارة ما بقدر ما هي محاسبة المسؤولين المباشرين ومعالجة القصور أياً كان لتلافي هذه الحوادث مستقبلاً، وإلا فهل سيكون الحل الآن هو حل وزارة التربية والتعليم باعتبارها المسؤول المباشر الآن عن هذه المدارس وكل ما يتعلق بها؟
مازالت المرافق التعليمية تعاني من عدم الجاهزية لجهة اشتراطات الأمن والسلامة، سواء كان المبنى قديماً أو جديداً، وسواء كنا نتحدث عن مرفق حكومي أو أهلي، فهناك حواجز على النوافذ، ومخارج الطواريء إما غير متوافرة، أو غير كافية، أو لا يمكن استخدامها لسبب مجهول. فقد ذكرت التقارير الإخبارية أن بعض مخارج الطواريء في مدرسة جدة كانت مغلقة! والسؤال هنا يوجه لملاك المدارس الأهلية، ويوجه أيضاً لمن منحهم التراخيص، ولمن لم يفتش خلفهم بعد ذلك.
ولا يوجد تدريب كافٍ وفعال للعاملين في هذه المدارس للتعامل مع الأزمات والكوارث الفجائية، ولا تدريب واقعي للطالبات على خطط الإخلاء وحماية أنفسهن من الخطر حتى يتم إنقاذهن وذلك من قبل مدربين مؤهلين وأعني بهم رجال الدفاع المدني. ومرة أخرى يوجه السؤال لوزارة التربية والتعليم، والتي ترسل تعميمات بخصوص لون الحذاء المدرسي، ماذا عن تعميماتها بخصوص الأمن والسلامة؟
الطالبة رزان نجار قالت إنهن اتجهن للأسفل بأمر من المعلمات حين شممن رائحة الحريق، ثم طُلب منهن الصعود لأعلى من جديد، وهنا انقسمت الطالبات لمجموعتين: مجموعة واصلت الجري للأسفل وخرجت، ومجموعة صعدت للأعلى باتجاه حجرة المعلمات، حيث أغلقن الباب وجلسن ينتظرن، وحين هاجمهن الدخان بضراوة بدأت المعلمات بالقفز من الشباك، وتبعتهن الطالبات وسط حالات من الفوضى والارتباك والتدافع، وهذا كله يعكس حالة التخبط التي كانت فيها المعلمات. ولم أقرأ حتى الآن تصريحاً من مديرة المدرسة حول الموضوع. كل ما نعرفه أن هناك معلمتين رائعتين استشهدتا وهما تحاولان إنقاذ طالباتهما، وحري بنا أن نكرمهما ونواسي أسرتيهما وهما: غدير كتوعة وريم النهاري.
أيضاً مازلنا نسمع عن تأخر وصول الدفاع المدني لموقع الحدث، فالمعدل المقبول لوصول سيارات الإطفاء والإسعاف في الدول المتقدمة هو ثلاث دقائق من وقت وصول الخبر إلى أقرب فرع لهما، فما المدة الزمنية التي استغرقها وصولهما للمدرسة في عام 1422؟ وهل تغير الوضع في عام 1432؟ هل تحسن الأداء بعد مرورعشر سنوات؟ كل هذه أسئلة ننتظر الإجابة عليها من إدارة جهاز الدفاع المدني في منطقة مكة المكرمة. ومن جدة إلى حائل، حيث تكشف صورة الحادث المروع عن رداءة الطريق الذي كانت المرحومات يقطعنه في كل يوم من قريتهن في جنوب حائل إلى جامعة حائل، قاطعات مسافة 500 كم ذهاباً وإياباً يومياً لعدم وجود فروع للجامعة في منطقتهن. ثم لنكتشف عبر تغطية الوطن أن هذا الطريق تحملت كلفته بالأصل إحدى القبائل في عام 1420 (قبيلة الهمزان) وأن الشكاوى بشأن حاجته للترميم والتوسعة والإصلاح قد توالت على إدارة البلدية منذ مدة ولا من مجيب. في حين قالت إدارة النقل والطرق في المنطقة إن هذا الطريق لا يدخل ضمن حدود مسؤوليتها. وكم بدا معيباً محاولة الإدارات المختلفة في حائل التنصل من مسؤولياتها ورمي التهمة على جهاز آخر! وكأن الأهم ليس الاعتراف بالقصور ومعالجة المشكلة وإنما النجاة من المساءلة. كما أكد شهود عيان أن عدد من نقلهم الإسعاف إلى المستشفى اثنتان فقط في حين تبرع المواطنون بنقل البقية دون أن نعرف السبب.
في مثل هذه الفواجع التي تنزل بالوطن حري بنا أن نتكاتف من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والمطالبة بمحاسبة المهمل بشدة وبالتالي محاربة الفساد الإداري. فصغيراتنا في جدة وشاباتنا في حائل خرجن لطلب العلم تداعب خيالهن أحلام المستقبل، ومن العارأن يحاول أحد التغطية على من تسبب بمأساتهن.