في السنوات القليلة القادمة سيعيش الجيل الحالي والجيل القادم في عزلة تامة في مجال التواصل الاجتماعي المباشر، حيث إنه يعيش حاليا شبه عزلة نتيجة للإفراط في استخدام التقنية، أو الاستخدام السيئ للتقنية ونتاجاتها، أو ما أسميه باستهلاك التقنية، وهذه العزلة التي بدأ يعاني منها الكثير من أفراد المجتمع في الوقت الحاضر لم يعان منها الجيل السابق الذي لم تتوافر له التقنية بمختلف أنواعها، ولعله من المناسب عرض مقارنة بين أفراد الجيل الحاضر، والجيل الذي سبقه من حيث التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى، والحوار، فقد يكون الفرق واضحا، وكبيرا في هذه المجالات.
ففي الماضي وقبل ظهور خدمة الاتصالات وتقنياتها المختلفة كان هناك تواصل، وتبادل زيارات، وتقارب بين أفراد المجتمع في المناسبات الاجتماعية المختلفة حيث كان الناس يسافرون من مدينة لأخرى، ويقطعون المسافات الطويلة من خلال الطرق الوعرة لزيارة، ومعايدة، والتواصل مع أهاليهم، وأقاربهم، وأصدقائهم، وجيرانهم، وكانوا يتفقدون أحوال بعضهم، ويساعدون المحتاج، وعند اجتماعهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويتبادلون الأخبار التي تهمهم في ذلك الوقت مثل أخبار الأمطار، والأسعار، وإلقاء الأشعار، وكانت مجالسهم بمثابة قاعات دراسية غير نظامية يتم فيها إلقاء، أو مناقشة بعض الموضوعات، أو حل بعض المشكلات، أو سرد لبعض القصص الاجتماعية الهادفة، ويخرج الفرد من تلك المجالس بفوائد عديدة، ومن أهمها التعلم من خبرات كبار السن، ومحاورتهم، ومناقشتهم بأسلوب راق، وهذا هو ما كانت عليه المجالس في السنوات الماضية.
وبعد ظهور خدمة الهاتف الثابت اكتفى كثير من الناس بالاتصال الهاتفي في المناسبات، للاطمئنان على بعضهم، وبذلك بدأت مرحلة جديدة تقلص فيها التواصل الاجتماعي الحقيقي بين الناس حتى بين الأقارب، واستمر الحال لفترة من الزمن حتى ظهور خدمة الرسائل الهاتفية (الفاكس)، وتم توظيفها في مجال التواصل بين أفراد المجتمع في المناسبات المختلفة، ونتيجة لذلك اتسعت الهوة، وزاد التباعد بين أفراد المجتمع في مجال التواصل الذي يجمع الأفراد في مكان واحد، ولم تكن هناك تجمعات اجتماعية، أو مجالس أسرية بشكل كبير، تلا ذلك ظهور خدمات التواصل المختلفة مثل الإنترنت والبريد الإلكتروني، وتم توظيفها في مجال التواصل الاجتماعي في المناسبات المختلفة وبشكل كبير، وهذا ينطبق على ظهور خدمات الهاتف الجوال حيث اكتفى الكثير من أفراد المجتمع بالاتصال الهاتفي، أو الرسائل في كثير من المناسبات، وكل هذه الخدمات التقنية أدت إلى تباعد الناس، وعدم تواصلهم بشكل مباشر، بل أدت إلى العزلة بين أفراد المجتمع، في حين أن التواصل مطلب شرعي واجتماعي في المناسبات المختلفة، وقد يقول البعض إن التقنية أسهمت في التواصل، والتقارب بين الناس، وهنا أقول إن ذلك صحيح، ولكنه لا يتعدى كونه تواصلا تقنيا يفتقر إلى الجوانب الاجتماعية، وتواصل يتم عن بعد، ولا يتضمن لقاءات مباشرة، وتفاعلية، ويكون لفترات زمنية قصيرة.
والمتتبع لحال مجالسنا في الوقت الحاضر يجد أنها تفتقر إلى الأحاديث الموحدة والموجهة التي من خلالها يستمع جميع الحضور إلى قصة من خبير، أو موقف اجتماعي يتحدث عنه شيخ كبير، بل نجد أن الأحاديث قد تكون جانبية بين اثنين يتحدثان مع بعضهما، وأغلب الحضور من الشباب – إن لم يكن جميعهم – منهمكون ومنشغلون بالحديث في الهواتف الجوالة، أو اللعب بها من خلال التنقل بين الألعاب المحملة عليها، أو إرسال الرسائل وتبادلها بين بعض الحضور في المجلس نفسه، أو خارج المجلس، هذا هو الحال في المجالس في وقتنا الحاضر بعكس ما كانت عليه قبل دخول التقنية ونتاجاتها المختلفة، أما على المستوى الأسري فالوضع قد لا يختلف كثيرا فعند تواجد أفراد الأسرة بالمنزل نجد أن الابن منشغل بالهاتف أو الإنترنت، خاصة بعد توافر تقنية الإنترنت في الجوال وتطبيقاتها المختلفة، ويتنقل بين المواقع المختلفة، أو يشاهد مقاطع من اليوتيوب، أو يستمع لأغان من المواقع المختلفة، أو يتابع بعض المواقع التي لن يجد من ورائها أي فوائد، كذلك الفتاة تتابع المواقع المختلفة، أو تستخدم أدوات التواصل التقني مع زميلاتها، وإرسال الرسائل التي ليس لها فوائد تذكر، وكذلك الأب، والأم منشغلان باستخدام ألعاب الجوال، أو متابعة بعض المواقع الإلكترونية، وبذلك نجد أن جميع أفراد الأسرة الواحدة منشغلون عن بعضهم بهذه التقنيات، ولن يكون هناك مجال لتبادل الحديث بينهم نتيجة لتوظيف التقنية بهذا الشكل، وبذلك لا يكون هناك حوار أسري، أو نقاش بين أفراد الأسرة الواحدة في البيت الواحد، فلنا أن نتخيل وضع المجتمع في المستقبل في ضوء تلك المتغيرات.
هنا أقول إن استهلاك التقنية أدى إلى التفكك الاجتماعي، وعدم التواصل، والعزلة الاجتماعية، ولا أعرف ما سيكون عليه الحال في المستقبل القريب في حالة استهلاك التقنية بشكل يؤدي إلى التباعد الاجتماعي؟