إذا كان القادة الكرد استطاعوا أن يديروا سياسة الإقليم بمهنية عالية ويبنوا كياناً مستقراً ومتطوراً قياساً بالعراق، فإنهم يجب ألا ينسوا للحظة أنهم جزء من اللعبة الجارية في المنطقة التي تقبل على تغييرات جوهرية

يبدو أن الوضع في إقليم كردستان يمر بمرحلة سياسية حرجة، يحتاج فيها إلى إبداء كثير من الحيطة والحذر والكثير من الحنكة والدهاء السياسي من جانب القادة الأكراد للخروج من عنق الزجاجة الذي وجدوا أنفسهم فيه فجأة، فأي غلطة غير مدروسة قد تؤدي إلى نتائج غير محسوبة، وقد تؤثر على استقرار الإقليم وتجربته الديمقراطية التي أقامها في غضون الأعوام العشرين الماضية، فهناك تحديات جدية في المنطقة تواجه الإقليم لا يمكن التغافل عنها؛ فالتطورات العسكرية الدراماتيكية التي تشهدها حدوده الشمالية والغربية بين إيران وتركيا من جهة وبين حزب العمال الكردستانيالتركي وحزب بيجاك الكردي الإيراني من جهة أخرى شكلت تهديداً مستمراً لأمنه القومي، وزادت من مخاوف اجتياح القوات العسكرية للدولتين لأراضي الإقليم كما صرح كبار قادتهما مراراً وتكراراً، بحجة مطاردة مسلحي هذين الحزبين الكرديين، وكذلك الزيارات المتلاحقة التي قام بها الرئيس مسعود بارزاني إلى كل من طهران وأنقرة خلال هذا الشهر ولقائه بكبار الساسة فيهما، وتبعتها زيارة خاصة لبعض الدول الأوروبية لنفس الغرض، وتزامنت مع الزيارة الخاطفة لرئيس وزراء الإقليم برهم صالح لأميركا ولقائه بنائب الرئيس الأميركي جو بايدن صاحب مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث كانتونات فدرالية على الأساس العرقي والطائفي للمكونات الثلاث الرئيسية؛ الشيعة والسنة والأكراد.
هذه الزيارات المكوكية العاجلة أظهرت جانباً كبيراً من القلق العميق الذي يبديه ساسة الإقليم وبخاصة أنها تأتي قبل فترة وجيزة من خروج القوات العسكرية الأميركية من العراق نهاية العام الحالي وفق بنود الاتفاقية الأمنية التي أبرمت بين البلدين، الأمر الذي يترك فراغاً أمنياً وعسكرياً كبيراً ـــ وخاصة أن العراق يعيش الآن في أضعف حالاته الدفاعية، فهو لا يملك أي قوة عسكرية لدرء الأخطار عن نفسه، حدوده مفتوحة من كل الجهات ــ قد يدفع بالدولتين انطلاقاً من أطماعهما التوسعية التقليدية إلى استغلال الضعف الموجود لدى العراق وقضم أجزاء مهمة منه؛ فربما كان الأتراك مازالوا يحلمون باستعادة ولاية الموصل العثمانية المحافظات الشمالية التي اقتطعت من الدولة العثمانية إبان تقسيم منطقة الشرق الأوسط وفق اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، ويعملون بقوة للوصول إلى هذا الهدف؛ وقد صرح الرئيس سليمان ديميريل عام 1995 بأن ولاية الموصل ولاية تركية، لا يمكن التفريط فيها بأي حال من الأحوال، وقد دأبوا منذ عام 2003 على ربط الإقليم الذي يشكل الجزء الأكبر من مساحة ولاية الموصل بالدولة التركية؛ من خلال إقامة المشاريع التجارية والاستثمارية الكبيرة فيه وإغراقه بالبضائع التركية، و وصل حجم التبادل التجاري التركي مع الإقليم إلى مستويات خرافية 10 مليارات من الدولارت الأميركية تمهيداً لضمه إلى تركيا، وكذلك فعل الإيرانيون: فهم لا يخفون دوافعهم في جعل العراق - وليس الإقليم فحسب - محافظة تابعة لدولتهم الإسلامية الشاهنشاهية بعد أن يحولوها إلى مسخ طائفي يقلد نهجهم الفكري كما فعلوا مع عربستان خوزستان العربية..
والتحدي الآخر الذي يجابه الإقليم بقوة يتمثل في تفاقم الأزمة الأخيرة بين الشيعة والسنة في العراق ـــ المأزومة أصلاً ــ على إثر دعوة بعض المحافظات الغربية السنية إلى إعلان الأقاليم التي رفضها التحالف الوطنيالشيعي الحاكم؛ الذي أصدر بياناً جاء فيه أن من يدعون إلى إقامة الأقاليم عملاء لـبايدن وينشدون تقسيم العراق، مع أن نفس هذا التحالف دعا عام 1995 بلسان زعيمه السابق السيد عبدالعزيز الحكيم إلى تشكيل إقليم موسع تُضم فيه 9 محافظات في الجنوب ووسط البلاد، ولا يمكن أيضاً التغافل عن الخلافات الجوهرية مع حكومة المالكي حول العديد من القضايا العالقة ومن ضمنها الأراضي المتنازع عليها، وعدم تطبيق المادة 140 من الدستور، ومسألة النفط والغاز التي ما زالت تراوح مكانها؛ على الرغم من تأكيد نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني المسؤول عن شؤون الطاقة في العراق مؤخراً في تصريح له على أن الحكومة وصلت إلى الحل مع الجانب الكردي، وأنهما بصدد التوقيع على اتفاقية نهائية لإنهاء المشكلة، ولكن المراقبين للشؤون العراقية يرون أن الاتفاقية الجديدة لن تُفعَّل في أرض الواقع وستأخذ طريقها إلى النسيان والإهمال كالاتفاقيات الأخرى الكثيرة، وأن حكومة المالكي ليست جادة في إبرام الاتفاقية مع حكومة الإقليم بل تريد كعادتها كسب مزيد من الوقت للخروج من الأزمات الكثيرة التي أحاطت نفسها بها، بالإضافة إلى الأوضاع الملتهبة الجارية في سورية المجاورة وما ينجم عنها من تطورات سياسية قد تنعكس سلباً على الإقليم بصورة من الصور، فالنظام السوري على مدار السنوات الماضية كان له دور مشهود مع نظيريه التركي والإيراني في إجهاض أي مشروع سياسي ينهض بالواقع الكردي المتردي، فلا يمكن التكهن بما سيؤول إليه مصير أكراد سورية الذين يشكلون أكثر من 15% من سكانها 4 ملايين من مجموع سكان سورية بحسب المصادر الكردية، في حال سقوط النظام ومجيء نظام آخر، ففي الإقليم توجد أعداد كبيرة من الأكراد الهاربين من جحيم النظام البعثي الأسدي وقد يشكل هؤلاء وما يمكن أن يضاف إليهم في قادم الأيام عبئاً آخر وتحدياً إضافياً لابد من الالتفات إليه..
وإذا كان القادة الكرد استطاعوا أن يديروا سياسة الإقليم بمهنية عالية ويبنوا كياناً مستقراً ومتطوراً قياساً بالعراق من خلال سياسة متوازنة تتسم بالحكمة والمرونة فإنهم يجب ألا ينسوا للحظة أنهم جزء من اللعبة الجارية في المنطقة التي تقبل على تغييرات جوهرية لابد من الاستعداد لها، والعمل على ضوئها.